حين نشاهد رئيساً يلقي خطاب «حالة الاتحاد» على شاشة التلفزيون، نرى دوماً ثلاثة أشخاص: الرئيس على المنصة، ونائب الرئيس ورئيسة مجلس النواب جالسان على منصة وراءه. تعتبر هذه الوضعية مزعجة كلقطة تلفزيونية، فقد طلب الصحافيون من هذين الأخيرين عدم السماح لعينيهما بمراقبة ما يجري في القاعة. عليهما التحديق بشكل ثابت في رأس الرئيس من الخلف، لكنهما بالغا في التحديق إلى حد أنهما بديا مذهولين بما يقوله، وكأن حديثه كان في غاية التشويق، بحيث عجزا عن تحويل أنظارهما عنه. كذلك هدف هذا الأمر إلى عدم تشتيت انتباه المشاهدين عبر التساؤل عن هوية الشخص الذي ينظران إليه بين الحضور. هذه وضعية غير مريحة بالنسبة إليهما ومملة. باعتبارك من جمهور الشاشة التلفزيونية ستشاهد الرئيس، بينما ستقول رئيسة مجلس النواب ونائب الرئيس في نفسيهما، «بدأ الشيب يتغلغل بعض الشيء في شعره من الخلف». لكن نانسي بيلوسي في هذه الظروف كانت تقوم في أغلب الأحيان بحركات خاطفة بعض الشيء بعينيها لأنها كانت تحاول دوماً النظر إلى القاعة، معتقدةً أن عدسات آلة التصوير غير مسلّطة عليها. في المقابل، بدا جو بايدن مسروراً بأداء دور المنبهر بعينيه المجعّدتين وأسنانه التي تشع بياضاً، لكن الأمر كان صعباً على بيلوسي. فهذه قاعتها، وجمهورها كلّه موجود فيها، وهي تريد النظر إلى وجهي جون بوهنر وهاري ريد ورؤية من المبتهج وماذا يرتدي هذا أو ذاك؟ لكن هذه اللقطة الثلاثية طرحت مشكلةً على الرئيس أيضاً، إذ شدّدت على أنه سلّم شؤون العام الأول من ولايته الرئاسية للأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس، وأن هؤلاء صاغوا قوانين الرعاية الصحية والإنفاق المكلفة والمكروهة.حين كان جيمس بيكر، ذلك الرجل الحاد الذكاء والحكيم، رئيس هيئة الموظفين في البيت الأبيض في عهد رونالد ريغان، لم يسمح أبداً لرئيسه بهدر الوقت مع أعضاء الكونغرس، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى حزبه، فالرئيس يتمتّع بمكانة رفيعة ويجب أن يبقي مسافةً بينه وبين رجال الكونغرس. يستطيع بالتالي الاجتماع بهم على انفراد في المكتب البيضاوي، وقد حدث مرةً أن عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ أبدى معارضته لقانون مهم للرئيس حاول التعبير عن ولائه الكامل له: «سيّدي الرئيس، تعلم أنني قد أقفز من طائرة لو طلبت مني ذلك، لكن...». فقال له ريغان: «حسناً، فتلقفز». عندئذ استسلم هذا السيناتور بعد أن أُخذ على حين غرّة. هكذا يجب أن يُعاملوا، لا تدعهم يلطخون صورتك ويجعلونك شخصاً عادياً، ولا تسمح لهم باتخاذ القرارات المهمة.لم يتمحور خطاب الرئيس أوباما حول فكرة معينة أو يتعمق فيها، فقد تطرق إلى مسائل من هنا وهناك، باحثاً عن غير هدى عن مجال قد يبرع فيه الرئيس. كُتب هذا الخطاب بعناية كبيرة وأُدي بحماسة، بنتيجة الأمر، ستتحسن شعبية الرئيس بعض الشيء، لكن ليس لوقت طويل، فالخطابات ليست عصاً سحرية، والخطاب الحالي لم ينقذه من مأزقه السياسي إنما سمح له بالصمود للقتال ليوم آخر. في ذلك الإطار الضيق كان الخطاب ناجحاً، لكن الانقسامات باتت على الأرجح أكثر عمقاً. ففي مناخنا الإعلامي والسياسي الراهن، من المريع أن يعكس الرئيس انطباعاً سيئاً في سنته الأولى.مع ذلك، سادت لحظات مؤثرة، فبشأن ما أسماه بصراحة «خطة إنقاذ البنوك»، لفت الرئيس: «كرهت هذه الخطة كما كرهتموها». لطالما شكلت لغته غير المنمقة محور الاهتمام. يضيف: «نحن لا نستسلم. أنا لا أستسلم». اعترف الرئيس، بشكل مقتضب، بأنه ارتكب أخطاءً، لكنه دافع عن نفسه عبر مغالطة الانتقادات التي وُجّهت إليه. قال إنه اتُهم بـ»الطموح المفرط»، لكنه اتُهم أيضاً بتفويت المسائل المهمة، واللامبالاة، والميل الإيديولوجي.اختار معدّو الخطاب عنواناً لبرنامج الرئيس، سمّوه «المؤسسة الجديدة»، فدسّوه بين الكلمات لجس النبض، غير واثقين على الأرجح من أنه سيحظى بالقبول. تؤتي مثل هذه العناوين فعاليتها حين تجسّد بوضوح فكرةً واضحة أصلاً، فقد مثل «الاتفاق الجديد» التحول التاريخي لفرانكلين روزفلت تجاه تدخل حكومي متزايد في حياة كل فرد أميركي، وكان اتفاقاً من نوع جديد. أما برنامج «الجبهة الجديدة» فكان يعني أننا مازلنا أمةً يافعة وحيوية، والمغامرات بانتظارنا في الداخل والخارج، لكنه كان بمنزلة نزعة أكثر منها برنامجاً، إنما نزعة في محلّها. في المقابل، يبدو برنامج «المؤسسة الجديدة» متيناً وفعالاً، لكنه يسعى إلى تشكيل وتنظيم فلسفة حاكمة لاتزال أكثر عشوائيةً من أن تُلخّص.لكن الجليّ في هذا الخطاب هو التناقض في صميمه، فقد أكد مراراً أن واشنطن هي الجواب الشافي لكل شيء، بينما صوّر هذه الأخيرة كمكان ضعيف وعاجز. كذلك ناقض أوباما نفسه في الخطاب حين قال: «تريدون منا إنقاذكم... لا تثقوا بنا، فنحن لا نفكر في أحد سوانا». الناس صالحون لكنهم بحاجة إلى الإرشاد من واشنطن. الطبقة الوسطى قلقة، وواشنطن هي القادرة على تهدئة هواجسها. تستطيع واشنطن «الحرص على أن يُزوَّد المستهلكون بالمعلومات التي يحتاجونها لاتخاذ القرارات المالية». على واشنطن «القيام باستثمارات»، و»إيجاد» فرص عمل، وزيادة «الإنتاجية» و»الفعالية».مع ذلك، تبدو واشنطن ساحةً، حيث «كل يوم هو أشبه بيوم انتخابات»، و»ثمة حملات مستمرة» والرياضة الأهم هي «إحراج خصومك» ورد «الانتقادات الساخرة في أرض الملعب».لمَ قد يثق أي شخص في هذا الخطاب لمساعدة أحدهم على تحقيق أمر ما؟لم يتحدث الرئيس عن الرعاية الصحية إلا بعد نصف ساعة. «حين تخف حدّة الجدال، أريد من الجميع الاطلاع مرةً أخرى على الخطة التي اقترحناها»، من ثم «إن كان يملك أي منكم فكرةً أفضل، فليعلمني بها». كشفت تلك الجمل الوجيزة الباهتة والواضحة للعيان عن واقع بطولي: انتهت المعركة بشأن خطة الرعاية الصحية التي اقترحها الرئيس، ولن تُطبق الخطة في البلاد. شكّل تضخيم مزايا مشروع القانون هذا أسلوباً خطابياً للتعتيم على واقع أنه لم يعد مطروحاً للنقاش، فلو أنه قال «لقد انهزمت، وانتهى الأمر»، لكان أضر ذلك بصورته على نحو لا يُنسى. في المقابل، تعهّد بلا مبالاة بالمضي قدماً، وتابع خطابه. وهكذا سيُنسى أمر مشروع القانون اليوم، وينتهي الحديث عنه. إنه أشبه بكعكة رخوة خسفت بعد طبخها في مطبخ غير مستعمل في جهة خلفية لمنزل فارغ، لذلك سيتحدث الرئيس عنه من الآن فصاعداً لتحفيز قاعدته الشعبية وتذكيرها بجهوده.بينما كانت عدسات آلات التصوير التلفزيونية تجوب القاعة، رأيت أحد معارف الرئيس الودودين، جمهوري لا يكن أي عداء له، فسألته لاحقاً لمَ لم ينتقل الرئيس بشكل حاسم إلى السياسة الوسطية؟ لأنه أكثر «صدقاً فكرياً» من ذلك، على حد قوله. يتابع هذا الناقد الودود: «لا أعتقد أنه يستطيع أن يكون محورياً كما بيل كلينتون، لأنه ليس عملياً، إنما رجل إيديولوجي. فهو اختصاصي اجتماعي يمزج بين التمييز الذي شعر به حين كان شاباً والمعاناة التي يعيشها كثيرون في هذه البلاد، لذا يريد تغيير ذلك والطريقة الوحيدة هي عبر البرامج الحكومية وليس الفرص».هذا ويضيف بأن الديون هي القضية الأهم، فالشعب يدرك ذلك جيداً على عكس الكونغرس والبيت الأبيض، مشيراً إلى أنه في ما يتعلق بقضية الإنفاق: «برأيي الجمهوريون فاسدون بقدر الديمقراطيين... أو بالأحرى هم أقل فساداً بقليل».من ثم يقول: «آمل أن نشهد تغييرات جذرية في عام 2010»، لكن وحدها الخسائر الكبيرة ستجبر الرئيس على التركيز على مسألة الإنفاق. ويتابع صديق الرئيس: «من أجل معالجة المشاكل في بلادنا علينا القضاء على مظاهر التعجرف في البيت الأبيض وإخراج النخبويين من الكونغرس. علينا بالتالي اتخاذ إجراءات انضباطية صارمة، لذا نحتاج إلى شخص راشد حقيقي في البيت الأبيض لأن الكونغرس يخلو من الراشدين».
مقالات - Oped
أوباما متناقضاً: واشنطن ضعيفة وعاجزة... وتستطيع حل مشاكلها كافة
01-02-2010