صدر حديثاً عن {الدار العربية للعلوم ناشرون} و{دار مسعى} كتاب {مستشرقون في علم الآثار} للمؤلف والناقد محمد الأسعد، وفيه سلسلة من الدراسات نُشرت على فترات متباعدة موضوعها ما اصطلح الكاتب على تسميته {الاستشراق في علم الآثار}.

يعتبر المؤلف أن النص، التوراتي منه تحديداً، أدّى الدور الأكبر في إنتاج ماضي الشرق، خصوصاً شرقنا العربي، فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غريبة لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة مستمدة من المرويات التوراتية، حتى وإن كان هذا الماضي أوسع زماناً ومكاناً من تلك اللحظة العابرة في تاريخه، تلك التي يفترض أنها مرحلة توراتية. وأعطت هذه الخصوصية علم الآثار في شرقنا العربي طابعاً مغلقاً وثابتاً، فهو فرع آخر غير علم الآثار، إنه علم خاص يدعى علم الآثار التوراتي، لا تلمسه أي مكتشفات من أي نوع كان، ولا تغير ثوابته أي خبرات جديدة مكتسبة، ولا تطورات حديثة في مجال علم الآثار.

Ad

يتابع الكاتب بأنه في أساس هذا {العلم} يكمن عنصرا {الرؤيا} و{الإحساس}. والرؤيا هي الرؤيا اللاهوتية، أي رؤية جوهر أصلي في تاريخ هذه الأرض لا يتغير، تمثله مآثر شعب التوراة لغة وتاريخاً ومملكة وفنوناً. وينظر إلى حضارات المنطقة القديمة على أنها مجرد مشتقات ثانوية من هذه المآثر. أما الهدف، فاستعادة الجوهر المطمور في تلال المنطقة العربية، خصوصاً فلسطين، وإعادته إلى الحياة. من هنا فوظيفة علم آثار من هذا النوع، ليست التنقيب عن الآثار القديمة والتعرف إلى هويتها، فهذه الهوية معروفة سلفاً في النص التوراتي، بل رفعها كمستندات تشكّل رابطة بين ذلك الجوهر الثابت وبين الكيان الاستعماري الذي أنشأه الغرب على أرض فلسطين وكونه من يهود جلبهم من مختلف الهويات القومية تحت زعم أنهم ورثة ما يسميها في أدبياته {أرض التوراة}، أي الجوهر الثابت على مر العصور.

يضيف الأسعد أن هذا الهوس النصي بلغ حداً مرضياً دفع ببعض علماء الآثار إلى جعل موضوع تقصيه وتنقيباته المكان الممتد من الهند إلى إسبانيا ومن جنوب روسيا إلى جنوبي الجزيرة العربية، والزمن الممتد منذ عشرة آلاف عام قبل الميلاد. وأطلق على هذا المكان الخيالي وهذا الزمان الغارق في القدم اسم أرض وزمان التوراة. وهو ما عنى بالضرورة محو أمكنة وأزمنة وتواريخ شعوب هذه المنطقة من العالم. وفي هذه النظرة اللاهوتية إلى العالم على أنه جوهر ثابت لا يتغير، صيغ الماضي مرة واحدة وإلى الأبد. فهو {رؤيا} لا تقبل التفسير أو التغيير حتى مع تراكم الخبرة البشرية ونشوء علوم جديدة قد تغير من رؤيتنا للتاريخ وأحداثه، حتى لو كشفت معطيات علم الآثار عن أدلة جديدة تناقض النص التوراتي. هنا يتجلى عمل هذا النوع من الاستشراق أكثر مما يتجلى في أي مجال آخر، وتتركز وظيفة المستشرق في تأكيد {الرؤيا} و{الإحساس} بالهدف، سواء اتخذ سمة عالم اللاهوت أو المؤرخ أو الألسني أو عالم الآثار.

البعد الثاني من أبعاد هذا النوع من الاستشراق، الذي يورده محمد الأسعد، هو البعد الاستعماري، وتمثل في الدور الذي أدّته البعثات الأثرية الغربية التي تدفقت على الأرض الفلسطينية في أعقاب احتلال فلسطين العسكري البريطاني عام 1917 من كل حدب وصوب: أميركية وبريطانية وفرنسية وألمانية. وقد ضمت المدرسة الأميركية للدراسات الشرقية وحدها ثماني مجموعات لاهوتية بارزة، ما بين بروتستانتية ويهودية وكاثوليكية، وفي هذه المدرسة التي نشأت منذ عام 1900 كونت مجموعة من رجال اللاهوت على رأسهم وليم ألبرايت ونلسون جليك جمعية أطلقوا عليها اسم {عالم الآثار التوراتي}، وأطلقوا على نشاطاتهم في فلسطين تسمية {علم الآثار التوراتي}. وتركز اهتمام هذه البعثات الأثرية على ما يسمونها خلفية التوراة التاريخية. وألهبت تقارير هذه البعثات الصحافية عن الآثار الفلسطينية التي كانت تقدم في إطار توراتي دائماً وتحت مسميات غير واقعية تختلق روابط بين المدن والقرى الفلسطينية وبين أسماء وأحداث وشخصيات توراتية، مخيلة الجمهور العربي، وصورت إقامة كيان استعماري يهودي كانت تجري على قدم وساق في ظل احتلال بريطاني يسلب أراضي الفلسطينيين ويدمر نسيجهم الاجتماعي اقتصادياً وسياسياً وتعليمياً، على أنها تجسيد للرؤيا التوراتية والوعد الإلهي.

مرويات توراتية

يؤكد الأسعد أن هذا البعد كان مسكوتاً عنه في الصحافة الغربية آنذاك، وسكتت عنه رؤى علماء الآثار واللاهوتيين، ولم يكن مفكراً فيه حتى، ما دامت فلسطين أرضاً خالية من السكان كما تقول المرويات التوراتية وتؤكد المخيلة الشعبية في الغرب طيلة آلاف الأعوام التي تلت نفي اليهود منها، وكما كانت تصور لوحات الرسامين وتروي كتابات الرحالة الرائجة في القرن التاسع عشر. في هذا الجو تلازم البعد اللاهوتي والبعد الاستعماري وسارا في سياق واحد وبتوافق تام، الأول كان يستولي بفرق الاستطلاع والمسح والتنقيب على الماضي الفلسطيني ويحل مكانه صورة ماضي مختلق، والثاني كان يستولي بقواته العسكرية ووحشيته التي فاقت الوحشية النازية والوحشية الفاشية على الحاضر الفلسطيني ويكمل مهمة الأول على أتم وجه.

يعتقد الكاتب بأننا أمام استشراق تطبيقي تلازم فيه فرض تاريخ على الأرض مع إبادة سكانها الأصليين، ولم يصنع صورة تمثيلية لهذه الأرض في الذهنية الغربية فحسب، بل واقتلع من الصورة بالقوة المادية والسطوة على مناهج البحث والمعرفة سكانها وتاريخهم المادي والثقافي في الماضي والحاضر، وحولها إلى أرض خالية تنتمي إلى ماضي الغرب البعيد، وها هو يعيد امتلاكها، ومنطقه في هذا أنه في ذات كانت إسرائيل القديمة قائمة بناء على وعد إلهي، وها هم اليهود الذين جمعهم وقذف بهم من مختلف أنحاء العالم ليعيدوا إليها الحياة.

يرى الأسعد أن هذه الصورة من الاستشراق في علم الآثار تجلّت على أكمل وجه وظلت تتجلى في صياغة صلات نسب للتاريخ التوراتي بفلسطين ستكشف الأيام في ما بعد أنه ملفق وزائف، وفي كل مناسبة تكتشف فيها آثار مدن عربية وغير عربية دارسة، سواء كانت في العراق أو فارس أو تركيا أو سورية أو مصر أو اليمن. فقد كان الآثاريون التوراتيون أيضاً يسارعون إلى نسبة لغات وفنون وعقائد هذه المدن إلى التوراة ومروياتها ولغتها. وينقل المؤلف عن لسان وليم ألبرايت قوله: {علم الآثار في فلسطين ليس مملاً على الإطلاق، ما دام المرء يواجه دائماً مكتشفات تربط المنقبين بالبلاد المحيطة بفلسطين، ولكن فلسطين توفر متعة أعظم من هذا لطلبة عادياتها الأثرية، فهي وطن التوراة، أرض اليهود والمسيحيين المقدسة. فعالم الآثار في فلسطين ليس بعيداً أبداً عن التوراة، فهو مشغول عادة باكتشاف وتفسير مادة تقود مباشرة إلى التاريخ التوراتي}.

يدعو الكاتب إلى إعادة قراءة نقدية للاستشراق ودراستنا له في علم الآثار، وتصبّ هذه الدراسة في إعادة النظر في الأسس المعرفية والمنهجية التي استند إليها المستشرقون، والتوراتيون منهم بالذات، في تمثيل تاريخنا ولغاتنا وهوية أرضنا تمثيلاً كانت التوراة اليهودية فيه هي الملقن، وكما فيه علماء الآثار لا يحتاجون إلى غير هذا الكتاب ليصنعوا تاريخاً يستجيب لمتطلبات حركة استعمار الأرض العربية في العصور الحديثة. كذلك يؤكد المؤلف أننا اليوم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعد ظهور أجيال جديدة من الباحثين وعلماء الآثار، لم تعد الأجيال الجديدة ترفض ما غرسته الموجة اللاهوتية من خيالات ولدها الهوس النصي في النصف الأول من القرن العشرين، وترافق مع حمى احتلال فلسطين وبقية بلدان المشرق، بل رفضت أيضاً مناهج البحث القائمة على أسس لاهوتية، وبدأت تبحث عن أدلة أخرستها هذه المناهج واستبعدتها، وتعيد تكوين صورة تاريخ واقعي لفلسطين وبقية الأراضي العربية.