يتمنى المرء أحياناً أن يعود به الزمن إلى الوراء، في رحلة إلى الماضي الجميل، المليء بعطاء الأجداد وتضحياتهم، ولن يتحقق له ذلك إلا بتجسيد جزء من الماضي وتخليده. هذا فعلاً ما لمسناه في القرية التراثية في جزيرة فيلكا.

{الجريدة} زارت القرية في رحلة مشوقة عبر الزمن.

Ad

بدأت الرحلة بتجمّع ركاب {بنت الخير} على مرسى {ما رينا} في منطقة السالمية. هكذا جرت العادة لنقل الركاب الراغبين والمتعطشين إلى زيارة جزيرة {الخير} فيلكا، فكما علمنا من البعض ثمة عائلات كثيرة في المرسى لم تزر الجزيرة منذ عام 1990.

بعدما اكتمل العدد، توجه الجميع إلى صعود العبارة وكانوا يرتدون ملابس قطنية للتخفيف من حدّ الصيف. التقينا بعائلات وأطفال وعدد لا بأس به من سائحين أجانب مهووسين بزيارة المناطق الأثرية في {إيكاروس}. شعرنا أن في الكويت ما يسمى {سياحة}، فطالما تمنى الجميع، لا سيما أهالي فيلكا أن تُستثمر الجزيرة بطريقة سياحية تحافظ على طابعها التراثي الجميل.

بعد دقائق معدودة من الجلوس بدأت {بنت الخير} بالإبحار ليعم الصخب مجدداً. الكل مشغول... هذا يراقب أمتعته وذاك يتأمل المجمعات التجارية من بعيد، أما الأطفال فلم تشغلهم إلا {كبينة} البحار وألعابهم الإلكترونية، فيما لجأ المسنون إلى أحاديثهم المطولة، الممتعة والمشوقة، وهم يتغنون بالماضي الجميل وبرحلاتهم إلى الجزيرة قبل الغزو العراقي.

مرت 30 دقيقة بلمح البصر. وصلنا أخيراً إلى الجزيرة والشوق يعترينا، خصوصاً أن معظمنا يحمل في ذاكرته كماً من الذكريات الجميلة حولها.

بيوت طينية

كانت الحافلات تنتظرنا على الطرف الآخر من المرسى. بدأنا بالسير تجاهها متحمسين، لكن فرحتنا لم تكتمل إذ شعرنا بغصّة وبطعم العسل الممزوج بالمر. المشهد كان أصعب من أن يوصف، فآثار الدمار الشامل على مباني الجزيرة ومرافقها تدمي القلب. آثرنا التجوال في شوارع الجزيرة وأطلنا المسافة نزولاً عند رغبة امرأة مسنة، كانت تريد تفقّد القرية عن كثب.

تجولنا قليلاً حتى وصلنا إلى بوابة القرية، فتبدّلت الحال سريعاً وعادت البسمة إلى وجوه الزوار. بدأ الجميع بالنزول من الحافلات، قاصداً البهو المؤدي إلى قاعة الاستقبال.

كان الجميع مشغولاً بإجراءات الوصول المتمثلة في الحصول على غرفة أو منزل في القرية التراثية أو فندق {إيكاروس}، وما أن استلمنا مفاتيحنا حتى بدأنا رحلتنا إلى الماضي كل على طريقته.

المفاتيح قديمة ويحمل كل منها رقم المنزل الخاص به، شعرنا لوهلة ونحن نتجول في {الفرجان} بأننا عانقنا أزمنة غابرة، حيث البيوت الطينية المتلاصقة، والممرات المتعرجة. ولفتت انتباهنا لوحات علقت إلى جانب كل بيت، وتحمل أسماء قاطنيها ومهنهم، وتعود إلى أشخاص عاشوا في الجزيرة منذ ما يقارب الخمسين عاماً. مثلاً، بيت يوسف مسليني وإلى جانبه بيت مكية الخطابة، ثم {الخواص}، والكهربائي رام رام، إضافة إلى بيت أمينة المندي أم العود وبلاع البيزة. جميع الأسماء والكلمات المدونة كانت تدل على مدى بساطة أهل فيلكا، فحياتهم وبحسب من عاشرهم كانت تتسم بترابط ميزهم كثيراً عن غيرهم.

{الصراي} و{الجندل}

تتألف منازل القرية من غرف صغيرة يتوسطها {حوش} يسمى بـ {الحوش العربي}، وتتميز بأثاثها البسيط وطابعه التراثي. هنا خزانة وهناك سرير ومجموعة نوافذ خشبية مسيجة تطل على المنازل المجاورة، إضافة إلى أدوات تقليدية كالـ{مزاريب} المستخدمة في تصريف المياه من فوق السطوح، ومظلات العريش و{الصراي} و{الحب} الذي كان يعمل بدوره على حفظ مياه الشرب نظيفة وباردة.

يبدو أن القيمين على تصميم البيوت اهتموا ببعض التفاصيل الدقيقة، كوضع مفاتيح الكهرباء القديمة ذات اللون الأسود والبارزة عن سطح الحائط لاستخدامها في المنزل، كي يشعر الزائر بأنه فعلاً في منزل قديم، إضافة إلى مصابيح متدلية من السقف ثبتت بعشوائية بين أعمدة {الجندل}. يُذكر أن المنازل مزودة بمكيفات لمن يرغب في زيارة القرية صيفاً.

جولة في القرية

مساءً، خرجنا للتنزه في القرية التي بدت كمدينة مصغرة ذات طراز تراثي لم يمسه شيء من التمدن. في البداية استوقفتنا مجموعة من الدكاكين تبيع منتجات تراثية، كمجسمات السفن و{الورجيات» والصناديق المبيتة والأبواب وغيرها، وفي الجانب الآخر من القرية ألعاب الأطفال مثل الـ{ديارف» و الـ{زحلاقيات» القديمة التي تعمل يدوياُ.

في القرية أيضاً حديقة للحيوانات وبحيرة صناعية تحتوي على مجموعة من الأسماك والسلاحف المختلفة. أما البالغون فباستطاعتهم ارتياد المقاهي ومجموعة المطاعم المنتشرة و{بيت الحلويات» الحريص دائماً على تقديم أشهى أنواع الحلويات الشعبية الطازجة والمعدة يومياً كالحلوى «الفلكاوية» و{الشقردية» و{القيمات» و{صب القفشه» وغيرها.

بعد انتهاء المدة المحددة لزيارتنا بدأنا بحزم أمتعتنا للعودة. انتظرنا طويلاً، فالمغادرة بدت صعبة نوعاً ما، إذ لم تتوافر هواتف لمحادثة موظف الاستقبال، أو لطلب خدمة الغرف. آثرنا الانتظار إلى أن وصل موظف من القرية لاستلام الأمتعة. لم يكن للحداثة والتكنولوجيا الصاخبة مجال، حتى في أدق التفاصيل. أيقنا لحظتها أننا لم نكن في رحلة إلى مرفق سياحي فحسب، بل في رحلة إلى الماضي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.