تحتل المياه بمرور الوقت مكاناً مركزياً في أولويات دول الشرق الأوسط والمنظمات الدولية، وبشكل جعل مصطلح «الذهب الأزرق» ينتشر لوصف المياه في أروقة مراكز الأبحاث وأوساط النخبة الاستراتيجية حول العالم، بصورة تقترب من ذيوع مصطلح «الذهب الأسود» الذي أطلق منذ بداية الثمانينيات على النفط، وبالرغم من أن المياه هي مصادر طبيعية متجددة في حين يعد النفط مصدراً طبيعياً قابلاً للنضوب، يعكس المصطلح الجديد الدور المتنامي الذي ستلعبه المياه في الاستراتيجيات العالمية بشكل عام، وفي تقرير مصائر الشرق الأوسط بشكل خاص. ولم تكن مصادفة أن تستحوذ أزمة مياه النيل ونصيب مصر منها على اهتمام الرأي العام في مصر ودوائر الأبحاث وصنع القرار، حتى أصبحت على قائمة اهتمام رجل الشارع العادي. يترافق الحديث عن مياه النيل ونصيب مصر منها الآن مع تخوف مراكز التفكير العالمية من مشكلة نقص المياه باعتبارها ظاهرة عالمية، وبحيث تبدو أزمة المياه أحد أكثر التحديات خطورة على بقاء مصر والدول العربية بشكلها الحالي. وتتفاقم مشكلة المياه في الشرق الأوسط عموماً بسبب تضافر مجموعة من العوامل هي: أولاً، موارد المياه في الشرق الأوسط لم تعد كافية لتلبية الاحتياجات، وثانيا أن ندرة المياه ستتزايد نتيجة سوء الاستخدام وزيادة عدد السكان، وهو ما يؤسس لظهور «حروب المياه» في العقدين القادمين. وتتشارك ثلاث دول عربية هي مصر وسورية والعراق في طبيعة قانونية وجغرافية محددة في أزمة المياه باعتبارها «دول مصب»، حيث إن مياه الأنهار العربية الأكبر (النيل ودجلة والفرات) تأتي من منابع تقع خارج حدودها السياسية. وبسبب أهمية المياه وندرتها فإنها ظهرت كأداة للضغط السياسي على دول المصب كما فعلت تركيا مع سورية والعراق منذ الثمانينيات، أو تم التلويح باستخدامها كذلك من بعض دول منابع النيل تجاه مصر في العقد الماضي. لا يبدو التهديد المائي في هذه اللحظة داهماً، فتركيا بعد أن أقامت سدوداً داخل حدودها مثل «كبان» و«كاراكايا» وبعدهما «أتاتورك» و«بيرجيك»، وهو ما قلص من تدفق المياه إلى سورية والعراق، فإنها عادت وأرخت قبضتها المائية تجاه سورية بالتحديد ضمن انفتاح تركي-سوري، إلا أنها لم تتخل عن طموحاتها المائية. وبالمقابل تعاني دول منابع النيل حروبا أهلية وتخلفا اقتصاديا بشكل يمنعها من الاصطفاف في موقف موحد تجاه مصر باعتبارها دولة المصب، ولكن مشاريع قوى كبرى لإقامة سدود لهذه الدول يشكل خطراً محتملاً وحقيقياً. ربما تملك مصر إمكانات مناورة أفضل مقارنة بما هو موجود لدى سورية والعراق، ويعود هذا التقدير إلى أن منابع النيل تتوزع على تسع دول، في حين تسيطر تركيا وحدها على منابع نهر دجلة والفرات مقابل سورية والعراق. كما أن الإمكانات التركية الضخمة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أرجح بكثير من إمكانات سورية والعراق معاً، حتى لو افترضنا إمكانية إدماج قدراتهما سوياً، في حين لا تملك أي دولة من دول منابع النيل أرجحية كتلك مقابل مصر. كما أن الوضع القانوني المصري يبدو أكثر تحديداً من مثيله السوري والعراقي، فالدول الثلاث مصر وسورية والعراق لها حقوق تاريخية مكتسبة في مياه النيل ودجلة والفرات، وهي الأنهار التي أعطتها الحياة لآلاف من السنين ولا يمكن لدول المنبع تجاهل تلك الحقوق. تستند الحجج القانونية العربية إلى حقيقة أن أنهار النيل والفرات ودجلة هي «مجار مائية دولية» لا يمكن لدول المنبع التحكم بها بمفردها، فضلاً عن أنها تمثل «موارد مشتركة» يجب أن يتم تقسيمها بين الدول التي يجري فيها النهر وفق أسس توافقية. ولكن مصر تحتفظ في موضوع نهر النيل بشرعيات إضافية هي الاتفاقات الدولية التي أبرمتها بخصوص مياه النيل سواء مع بريطانيا العظمى عام 1929 أو مع حكومة السودان عام 1959. أعطت الاتفاقية الأولى لمصر التمتع بما يشبه حق النقض إزاء أي مشروع مائي يقام في ثلاث دول من دول المنبع (تنزانيا وكينيا وأوغندا) باعتبار أن بريطانيا التي استعمرت تلك الدول آنذاك قد مثلتها قانونياً في اتفاق دولي ملزم، كما أعطت الاتفاقية الثانية الموقعة مع السودان لمصر الحق في الحصول على 55 مليار متر مكعب سنوياً من مياه النيل. تحرك منتدى دولي كبير مثل منتدى دافوس للحديث عن أزمة المياه في الشرق الأوسط هو مؤشر واضح على خطورتها، فالمنتدى يفوق في أهميته السياسية مؤسسات أممية كثيرة، وهو ما يتطلب من الدول العربية مصر وسورية والعراق أكثر من إعادة إنتاج حديث «المؤامرة» و«استهداف العرب في مقدراتهم».الأرجح أن الحكومات العربية المعنية بأزمة المياه؛ ليست معنية بالضرورة بحرية تداول المعلومات وإشراك أوسع القطاعات الشعبية في الجدل السياسي حول القضايا المصيرية. في حالة سورية والعراق تبدو تركيا قدراً جغرافياً ومائياً يجب التعامل معه ضمن معطيات القوى الراهنة، أما في حالة مصر فسيعني تغير موازين القوى في دول المنابع الكثير من التبعات على وادي النيل وسكانه. تأسيساً على ذلك تختلط السياسة الدولية بالإقليمية مع الاقتصاد والري في حالة مصر بشكل أعقد مما يبدو على السطح، بحيث يبدو سؤال: هل الأفضل لمصر فوز زعيم المعارضة الكينية رايلا أودينغا بالسلطة أم بقاء الرئيس الحالي مواي كيباكي؟ أكثر بكثير من مجرد تمرين ذهني افتراضي. وأن تستمر عرقية التيجراي في الاحتفاظ بالسلطة في أثيوبيا مقابل الأمهريين ليست مسألة ثانوية، بل داخلة في عمق المشهد المائي المصري. إنها عملية تشكيل لتوازنات جديدة نشربها حالياً وسنشجبها كـ«مؤامرات» لاحقاً في حال لم نرتفع إلى مستوى التحدي. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
أزمة المياه في الشرق الأوسط: توازنات نشربها
06-08-2009