أجاد الرئيس الأميركي باراك أوباما توظيف خطابه للعرب والمسلمين من جامعة القاهرة لإظهار مساحات الاختلاف والتمايزات النوعية بين مقاربة إدارته للعالم الإسلامي وممارسات إدارة بوش في الفترة 2000- 2008. أفرد أوباما الشق الأول من خطابه للتأكيد مجددا، بعد حديثه مع قناة العربية وخطابه أمام البرلمان التركي، على رغبته في طي صفحة الحرب على الإرهاب وما رتبته من توتر في العلاقة بين الولايات المتحدة والمسلمين والتأسيس لبداية مغايرة تعول على السلام والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.ففي مقابل مغامرات بوش العسكرية في أفغانستان والعراق التي ولدت انطباعا غالبا بين المسلمين بأن القوة العظمى تشن حربا عليهم، وبعد صياغات الرئيس السابق المتكررة التي خلطت بين الإرهاب والإسلام كالفاشستية الإسلامية وغيرها، شدد أوباما على أولوية التأسيس لبداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي تعمل على التخلص من الصور النمطية السلبية لدى الجانبين، وتستعيد القراءة الأميركية الإيجابية للإسلام كدين وتذكر المسلمين بتسامح المجتمع الأميركي الذي يحتضن اليوم ما يقرب من 7 ملايين مواطن مسلم. وللتدليل في هذا السياق استدعى ساكن البيت الأبيض خبرته الذاتية والخلفية الإسلامية لأسرة أبيه في هذا السياق وأشار أكثر من مرة إلى اللحظات المضيئة في تاريخ التعاون بين الولايات المتحدة والمسلمين واستشهد بآيات القرآن الكريم ليعطي لخطابه روحية مختلفة بجلاء عن توجهات سلفه. تناول أوباما في الشق الثاني من خطابه القضايا المحددة التي تشكل، كما قال، مصادر التوتر في العلاقة الأميركية مع العرب والمسلمين موضحا المبادئ والخطوط العريضة لسياساته في المرحلة القادمة ومصارحا جمهوره الواسع بأن هدفه يظل هو حماية المصالح الأميركية. تصدرت القائمة هنا التركة الثقيلة التي ورثها أوباما عن بوش في أفغانستان والعراق والصراع مع تنظيم «القاعدة»، وكان لافتا استبدال أوباما الدقيق لكلمة الإرهاب ولعبارة الحرب على الإرهاب بكلمات كالعنف والتطرف والراديكالية، وبعبارات كمواجهة التنظيمات العنفية وحتمية الشراكة العالمية للانتصار عليها (وهو ما ينتقد عليه أوباما اليوم بشدة من جانب اليمين الأميركي). وتواكب مع استبدال المفردات سيئة السمعة بين العرب والمسلمين والوعد بالرجوع عن الانفرادية الأميركية، التأكيد على عزم الولايات المتحدة إنهاء وجودها العسكري في العراق وفقا للجدول الذي سبق إعلانه (القوات المقاتلة في صيف 2010 وجميع القوات في 2012) ودون احتفاظ بقواعد عسكرية هناك، وكذلك نزوعها للخروج من أفغانستان ما أن تستقر أوضاعها.أشار أوباما أيضا إلى شمولية مواجهة إدارته للتنظيمات العنفية التي تهدد الأمن القومي الأميركي وتجاوزها اعتماد بوش الأحادي على الأدوات العسكرية لتدمج بينها وبين البحث عن حلول سياسية والسعي إلى تنمية المجتمعات والمناطق التي تنشط بها «القاعدة» وغيرها.أما في ما خص القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي ومستقبل التسوية السلمية، فتوافق أوباما في التزامه بحل الدولتين وحديثه عن حق إسرائيل المشروع في الوجود وحق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته مع الخطوط العريضة لموقف إدارة بوش المعلن. وفي حين عجز بوش عن تحويل موقفه إلى سياسة فعالة لانحيازه غير المسبوق لإسرائيل ورفضه الضغط عليها فضلا عن تأخر اهتمامه بالقضية الفلسطينية إلى العامين الأخيرين من عمر إدارته الثانية، بدا أوباما في القاهرة- وعلى الرغم من عمومية ملاحظاته في هذا المجال- بمظهر الراغب في الضغط على حكومة اليمين الإسرائيلية لإلزامها بحل الدولتين وتعهدات خارطة الطريق، وفي مقدمتها وقف الاستيطان في الضفة الغربية.المساحة المهمة الثانية للتغيير في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية التي تضمنها الخطاب هي تلك المتعلقة بـ«حماس» التي امتنع أوباما عن وصفها بالإرهابية كدأب سلفه، بل اعترف عملا بشرعية وجودها ودورها كحركة يؤيدها قطاع واسع من الفلسطينيين قبل أن يطالبها باحترام خارطة الطريق. ولا شك عندي في أن تقديم الاعتراف بشرعية الوجود والدور على المطالب إنما يعبر عن انفتاح ولو محدود من جانب الإدارة الجديدة على «حماس» واستعداد على الأقل جزئي للدخول معها في حوار.ثم تطرق أوباما إلى المسألة النووية وفي موقع القلب منها البرنامج النووي الإيراني ليعمم ويخصص، فعمم بجعل هدف عالم خال من الأسلحة النووية عنوانا عريضا وعالميا للسياسة الأميركية، وخصص بالقول بأن لإيران ولغيرها من دول الشرق الأوسط الحق في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية في إطار المواثيق الدولية (معاهدة الحد من الانتشار النووي) وعليها الامتناع عن تطوير برامج للتسلح النووي. مجددا، اختلفت مقاربة أوباما هنا عن سلفه الذي عمد للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني كمصدر تهديد ينبغي تحييده بالضغط على الجمهورية الإسلامية من خلال عقوبات دولية وغربية، وتلويح بإمكانية استخدام الأداة العسكرية. مثل هذه المفردات توارت تدريجيا مع الإدارة الجديدة وحلت محلها مفردات مغايرة صاغها أوباما في خطاب القاهرة جوهرها الانفتاح الدبلوماسي على إيران بعرض لحوار مباشر حول النووي وغيره من القضايا العالقة بين الدولتين، وكذلك تحويل الانتشار النووي في الشرق الأوسط إلى مشكلة لا تقتصر على برنامج إيراني يتطور اليوم، بل تمتد إلى دول أخرى، في إشارة جريئة إلى السلاح النووي الإسرائيلي.مثلت ملفات الديمقراطية والحرية الدينية وحقوق المرأة والتنمية الاقتصادية بقية القضايا المسببة للتوتر بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي وفقا لأوباما، وجاءت مواقفه حولها مستهدفة إزالة لبس من جهة، وتجاوز اختزال العلاقة بين الطرفين إلى الشؤون السياسية فقط من جهة أخرى. ففي استمرارية مع إدارة بوش، وضع الرئيس الأميركي الديمقراطية وقيمها الكبرى حكم القانون والمشاركة الشعبية وتداول السلطة عبر انتخابات سلمية والمحاسبة والشفافية في مصاف القيم العالمية التي ترحب القوة العظمى ببزوغها في أقاليم العالم المختلفة، إلا أنه أكد أيضا ابتعاده عن سياسة دعم الديمقراطية لسلفه بوش، والخلط الذي اتسمت به بين الديمقراطية والتدخل لتغيير النظم. وبالرغم من أن هذا الموقف لأوباما أثار استياء بعض قوى المعارضة في العالم الإسلامي ودعاة الديمقراطية في الغرب، يظل هو في المرحلة الراهنة أخذا في الاعتبار احتياج الولايات المتحدة لحلفائها الديمقراطيين وغيرهم بين العرب والمسلمين لحماية مصالحها وفقدان السياسة الأميركية لدعم الديمقراطية للمصداقية بعد ممارسات إدارة بوش الخيار الأكثر واقعية. أخيرا، ومن خلال تناول الحرية الدينية وحقوق المرأة والتنمية الاقتصادية، وتلك ندر أن تطرق إليها بوش، طرح أوباما على العرب والمسلمين شراكة تتخطى أزمات السياسة وصراعاتها، وترتكز إلى توافق قيمي وعملي مع بعضهم على أهمية هذه الأهداف.هذه دون مبالغات تشاؤمية أو توقعات مرتفعة السقف مساحات الاختلاف والتمايزات النوعية بين إدارة أوباما والإدارة السابقة، تشكل مجتمعة ترشيدا إيجابيا للسياسة الأميركية تجاه العرب والمسلمين، وبحثا عن توازن غاب خلال الأعوام الماضية وتطرح علينا فرصا ينبغي توظيفها بوعي.* أكاديمي مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
خطاب القاهرة... رصد تغير السياسات الأميركية
08-06-2009