تتزاحم في خلفية المشهد السياسي الإيراني الكثير من التفاصيل والتعرجات الصغيرة والكبيرة والخطوط المستقيمة والمتقطعة، بحيث تبدو محاولة التحليل السياسي عملية شاقة ومثيرة تشبه إلى حد كبير عملية «قراءة فنجان القهوة» الذائعة في منطقتنا. وإذ يعتبر الخيال الرمزي في كلا العمليتين المحرك الأساسي لتقويم المعاني واستخلاص النتائج، فإن التأمل في المشهد واستخلاص معانيه بعد الفرز بين الغث والسمين يتطلب تقليب النظر في احتمالات كامنة وراء التفاصيل. وهكذا بالرغم مما يبدو غلبة مطلقة للاصطفاف المحافظ الذي يمسك بتلابيب الدولة الإيرانية مقابل الاصطفاف الإصلاحي الذي يحظى بتأييد شعبي لدى شرائح جماهيرية بعينها، فإن توازنات القوى في إيران لم تتحمل تاريخياً هيمنة تيار واحد على مقاليد الدولة والمجتمع في إيران الثورية، وليست في وارد تحملها الآن. صحيح أن الرئيس أحمدي نجاد في الواجهة- والتيار الداعم له في الخلفية- أفلحوا في تثبيت نتيجة انتخابات الرئاسة العاشرة؛ عبر مصادقة مرشد الجمهورية عليها وهي المصادقة المتممة دستورياً لنتيجة الانتخابات، إلا أن استمرار بعض مظاهر الاعتراض في شوارع المدن الإيرانية الكبرى أو بين أفراد النخبة يضعف من الشرعية المعنوية للرئيس الإيراني. احتدام الصراع بين الاصطفافين مع تراجع إمكانية التوصل إلى «حلول وسط» يعكس ميل التيار الداعم لأحمدي نجاد إلى الاعتقاد بأن المزيد من التشدد في مواجهة المعارضين سوف يفرض عليهم الواقع الجديد بالتدريج. يقضي منطق «الحلول الوسط» بأنها تبدو ممكنة فقط في حالات عدم الحسم والمواقف التعادلية، ولكن الرئيس الإيراني نجح إلى حد كبير في منع المتظاهرين من النزول إلى الشارع عبر الأذرع الأمنية للنظام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم تقديم حوالي مئة من قيادات الإصلاحيين إلى «المحاكم الثورية» بتهم شتى تبدأ من الإضرار بالأمن القومي حتى التنسيق مع قوى خارجية. وبسبب «اعترافات» محمد علي أبطحي، المستشار السابق للرئيس خاتمي ومنسق حملة مهدي كروبي الانتخابية الأخيرة، والتي تدين رموز التيار الإصلاحي من مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي وحتى هاشمي رفسنجاني بالتآمر على المرشد، فقد أصبحت المحاكمات إحدى الوسائل الممتازة بيد الرئيس أحمدي نجاد والتيار الداعم له للتشهير برموز المعارضة، وخلق فجوة بينهم وبين المتعاطفين معهم داخل وخارج إيران. لا يهم هنا كثيراً أن زوجة أبطحي أكدت أن أقواله انتزعت تحت الضغط، ولا يهم في المشهد العام التفصيلة المتعلقة بطبيعة «محاكم الثورة» وخلفيتها التاريخية المصبوغة بلون الدم، ولكن المهم للسياق العام هو مدى تأثير هذه المحاكمات في الرأي العام الإيراني. وزادت أهمية المحاكمات على أهميتها مع اقتراح يد الله جواني، أحد قيادات الحرس الثوري الداعم للرئيس محمود أحمدي نجاد، باعتقال رموز المعارضة خاتمي وكروبي وموسوي وتقديمهم للمحاكمة أيضاً في خطوة تستهدف تشديد الخناق على الاصطفاف الإصلاحي.لا يمكن اعتبار الاعتقال للرموز احتمالاً ممكناً لأن توازنات النظام السياسي الإيراني لا تسمح بذلك، ولأن صورة إيران في الخارج ستمنى بانتكاسة يصعب إصلاحها لاحقاً. إذا كانت إيران تفخر بحيوية نظامها السياسي وبالتيارات المتعددة التي تنضوي تحت خيمته مقارنة بدول شرق أوسطية أخرى– وهو أمر صحيح إلى حد كبير-، فإن اعتقال رموز المعارضة لو حدث سيجعل من هذا الفخر مجداً من أمجاد الماضي ويسحب من نظامها أحد أكثر أوراقه قوة. ربما تكون محاكمات القيادات التي تجري حالياً في حد ذاتها مكسباً وقتياً للرئيس أحمدي نجاد لأنها تضع قيادات المعارضة من الصف الثاني على مقاعد الاتهام، ولكنها على المدى المتوسط قد تكون ضارة بالرئيس نفسه لأنها تكسر خطوطا حمرا اعتادت التيارات السياسية في إيران التوقف عندها. لا تقتصر حدود الحراك السياسي الإيراني على الاصطفافين المحافظ والإصلاحي وعلى العرف القاضي بعدم إمكانية إلغاء تيار للآخر، بل تتعدى ذلك إلى ملاحظة التمايز داخل كل اصطفاف والحراك داخل كل منهما في بعث جديد للقانون الجدلي الشهير: الوحدة والصراع. يمثل الرئيس أحمدي نجاد التيار الأصولي داخل الاصطفاف المحافظ، في حين يمثل أغلبية رجال الدين التيار التقليدي، ويجسد رئيس البرلمان علي لاريجاني التيار البراغماتي داخل نفس الاصطفاف. ولذلك يتوجب على أحمدي نجاد أن يخوض مواجهات مع الاصطفاف الإصلاحي وفي الوقت نفسه المحافظة على المواقع والتوازنات حيال التيارات الحليفة والمنافسة داخل الاصطفاف المحافظ. وفي هذا السياق ينبغي ملاحظة أن تعيين محمد صادق لاريجاني، الشقيق الأصغر لرئيس البرلمان، رئيساً جديداً للسلطة القضائية خلفاً لآية الله هاشمي شاهرودي يصب في توازن جديد بين التيارات المحافظة. ولأن اندفاع أحمدي نجاد ضد المعارضة الإصلاحية ورموزها قد اضطر السيد خامنئي إلى النزول من علياء المرشدية، فوق التيارات السياسية إلى أرضية الواقع، داعماً للرئيس ومثبتاً لصحة انتخابه، فإن الموقع الدستوري الأول– أي المرشد- يبتغي من تعيين صادق لاريجاني تكوين ثقل محافظ براغماتي مواز لاندفاع أحمدي نجاد ومقيد له في الواقع. ويتأسس على ذلك التعيين تشكل توازن جديد داخل الاصطفاف المحافظ، بحيث تذهب سلطتان إلى المحافظين البراغماتيين مقابل سلطة واحدة هي السلطة التنفيذية التي يمسك بزمامها رئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد ومن خلفه المحافظون الأصوليون. ذهب منصب رئيس السلطة القضائية حتى الآن إلى كبار رموز النظام وممن يحملون لقب آية الله أيضاً، ولكن اعتبارات التوازن المذكورة جعلت المنصب الآن من نصيب رجل مدني غير معمم، وهكذا تنهض حقيقة جديدة ضمن المشهد الحالي، وهي أن السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية يشغلها مدنيون غير معممين، وذلك لأول مرة في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية. وبخلاف البعد التاريخي لتعيين صادق لاريجاني يمكن ببعض الاطمئنان توقع أن يشكل «الإخوة لاريجاني» تحدياً مهماً للرئيس الإيراني أحمدي نجاد يكبح اندفاعاته في فترة ولايته الثانية؛ وصولاً إلى إفساح مجالات أوسع أمام البرلمان لرسم معالم السياستين الداخلية والخارجية لحكومة أحمدي نجاد القادمة. يواجه أحمدي نجاد تحدياً مثلثاً أمام «الإخوة لاريجاني» مع السلطتين التشريعية والقضائية، وأمام خصمه العنيد هاشمي رفسنجاني في الأروقة العليا للدولة الإيرانية وأخيراً أمام الإصلاحيين خارج بنية الدولة في شوارع المدن الكبرى ومحافل النخبة الإيرانية ووسائل الإعلام الدولية. قد يبدو الرئيس نجاد والتيار الذي يمثله رابحين في المرحلة الراهنة إذا اعتمدنا في تحليلنا على مؤشرات تراجع مظاهر الاحتجاج في الشارع، وتثبيت صحة الانتخاب دستورياً ومحاكمة قيادات الإصلاحيين وانتزاع «اعترافات» منهم. ومع وجاهة وأهمية هذه المؤشرات الوقتية يتوجب ملاحظة التحول الجاري في توازنات الاصطفاف المحافظ ذاته كأحد أهم القيود التي ستفرض على هامش حركة الرئيس الإيراني، كما ينبغي في أغلبية الأحوال التسلح بالحكمة الشعبية الفارسية القائلة: «عد أفراخك الصغيرة في نهاية الخريف». أعتقد أن التيار الذي يمثله الرئيس أحمدي نجاد ربما يحتاج إلى استذكار هذه الحكمة الفارسية خلال الأيام الحالية. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
قراءة في توازنات إيران الداخلية
13-08-2009