لم يكن مقتل مروة الشربيني في ألمانيا بسبب هجوم لفظي لقاتل ألماني تطور فيما بعد إلى ارتكاب جريمة القتل، بل هو نتاج شيوع حالة من العداء للمسلمين والعرب والأجانب بين بعض قطاعات المجتمع الألماني في الولايات الشرقية لا ينبغي الاستهانة بها.

Ad

لم أستغرب أُحادية ردود الفعل الرسمية الألمانية، التي أكدت فقط أن الحادثة البشعة التي قُتلت بها المواطنة المصرية مروة الشربيني على يد متطرف ألماني طعناً بالسكين أمام ساحة محكمة بمدينة دريسدن، هي حادثة فردية ولا تعبّر عن شيوع حال من العداء للمسلمين والعرب في ألمانيا.

فالحكومة الألمانية دأبت منذ تسعينيات القرن الماضي، على التقليل من وزن أعمال العنف ضد الأجانب، مسلمين وغير مسلمين، وفي مقدمهم من حيث العدد الأتراك متبوعين بالعرب والإيرانيين ثم الأفارقة، ونعتت مرتكبيها بالأقلية الصغيرة المتطرفة غير الممثلة للمجتمع الألماني المتسامح في عمومه.

ورغم أن محاولة إلصاق تهمة التطرف بقطاع واسع من المجتمع الألماني، هي بكل تأكيد ممارسة لا تستند إلى مؤشرات واقعية شأنها في ذلك شأن توجيه انتقاد عام للحكومة الألمانية بحجة عدم العمل على الحد من العنف ضد الأجانب، وهي التي تتبع سياسات مختلفة لمواجهته، فإن اختزال الخطاب الرسمي الألماني لقتل مروة الشربيني وما شابهه من أعمال عنف لم تغِب عن ألمانيا منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى حوادث فردية يشكل تعاطياً غير مسؤول مع ظاهرتَي العنصرية والعداء للأجانب، وكلاهما تفشّى خلال الأعوام الماضية في بعض الولايات الألمانية، خصوصاً الشرقية.

وواقع الأمر أن بيانات وزارة الداخلية الألمانية تدلّل على ذلك بجلاء شديد، ففي 2008، استمر ارتفاع عدد الجرائم التي ارتكبتها حركات ومجموعات اليمين المتطرف والعنصري في ألمانيا إلى 20422، مرتفعة بنسبة 16 في المئة عن 2007، علما بأن 2007 كان العام الأسوأ في هذا الصدد منذ 2000.

ومن بين الجرائم هذه، وهي في المجمل تتوزع بين الترويج والدعاية للفكر العنصري المجرَّمتين في ألمانيا واعتداءات على أفراد ومواجهات مع السلطات الأمنية وإتلاف لعدد من المقابر اليهودية ولبعض ممتلكات الأجانب، وسُجل ما يقرب من 3000 اعتداء على مواطنين من أصول أجنبية ومقيمين أجانب بزيادة اقتربت من 3 في المئة، مقارنة بعام 2007، فهل يمكن إزاء 3000 اعتداء عنصري قبول نعت الحكومة الألمانية لحادثة قتل مروة الشربيني بالفردية؟ بالقطع لا!

منذ توحّد الألمانيتين في 1990، والولايات الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة) تشهد من جهة أولى تصاعداً مستمراً في شعبية حركات ومجموعات اليمين المتطرف، التي نجحت بعض الأحزاب الصغيرة القريبة منها -الرافعة شعارات صريحة في معاداتها لوجود الأجانب في ألمانيا- في إيصال مرشحيها إلى برلمانات بعض الولايات الشرقية.

واستغل اليمين المتطرف تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الولايات الشرقية، خصوصاً معدلات البطالة التي بلغت في 2008، 13.1 في المئة مقارنة بنسبة 8 في المئة لعموم ألمانيا، للربط بين وجود الأجانب والبالغ عددهم وفقا لبيانات العام الماضي 6.73 ملايين (عدد السكان الإجمالي في ألمانيا هو 82.21 مليوناً) من جانب، وأزمات الشرق من جانب آخر عبر خطاب عنصري رديء يتهم الأجانب «بسرقة» فرص العمل من المواطنين الألمان وبإرهاق خزانة الدولة بما يقدم لهم من ضمانات اجتماعية وتأمينات صحية.

من جهة ثانية، تواكب مع هذا الخطاب الرديء والنظرة السلبية للأجانب النابعة منه، موجة العداء الغربي للمسلمين والعرب التي برزت في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وما تلاها من تفجيرات في لندن ومدريد، ولم ينجُ منها جزئيا على الأقل المجتمع الألماني، بل تأثرت بها السلطات الرسمية على نحو رتب تشديد الإجراءات الرقابية على المسلمين والعرب المقيمين في ألمانيا، وحوّل وجودهم إلى أمر هو للأزمة أو المرض أقرب من الظاهرة الاعتيادية.

لم يكُن إذن الهجوم اللفظي للقاتل الألماني على القتيلة مروة الشربيني في ساحة للعب الأطفال في مدينة دريسدن الشرقية ووصفها بالإرهابية المسلمة والمتطرفة، وهو ما دفع القتيلة الشجاعة إلى مقاضاته وأفضى في ما بعد إلى التطور المأسوي المتمثل في قتلها في ساحة المحكمة، بالحادثة الفردية، بل هو نتاج شيوع حالة من العداء للمسلمين والعرب والأجانب بين بعض قطاعات المجتمع الألماني في الولايات الشرقية لا ينبغي الاستهانة بها، والحقيقة أن المنظمات المدنية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الأجانب والأقليات الدينية في ألمانيا، وقد أتاحت لي معيشتي في برلين بين 1994 و2003 فرصة التعرف على أنشطتها عن قرب، كثيرا ما نبهت إلى خطورة الظاهرة وطالبت الحكومات المتعاقبة باتخاذ إجراءات صارمة لمواجهتها والحيلولة دون تحول ألمانيا إلى مجتمع منفّر للأجانب، وهي التي تبحث مصانعها ومعاملها وجامعاتها اليوم عن كفاءات في الخارج لسد عجز واضح هو إلى اتساع مع التناقص المستمر في تعداد المواطنين.

مجدداً، لا أريد من التحليل السابق أن يترك لدى القراء انطباعاً زائفاً بأن المجتمع الألماني في عمومه يتسم بالعداء للأجانب، فذلك وكما ذكرت ادعاء غير واقعي ولا سند له، بل إن خبرتي الحياتية العملية والشخصية في ألمانيا، ومنها حصلت على إجازة الدكتوراه في العلوم السياسية وعملت في الجامعة ببرلين ولي في الأخيرة ولدان يقيمان هناك مع أمهما الألمانية، فيها بعض الأدلة الصالحة لدحض هذا الادعاء، ولا شك لديّ في أن دولة القانون في ألمانيا وقضاءها سيحاكمان قاتل مروة الشربيني بنزاهة وحيادية.

رغم ذلك، يتجاوز قتل مروة الشربيني حدود الحادثة الفردية ويعيد على المجتمع الألماني، شأنه في ذلك شأن حوادث قتل أخرى لأسر تركية ومهاجرين أفارقة هزت ألمانيا خلال الأعوام الماضية، طرح تساؤلات صعبة حول كيفية التعامل مع تفشي العنصرية والعداء للأجانب في الولايات الشرقية.

بقي أن أشير أخيراً، إلى أنني لم أجد مبرراً مقنعاً واحداً لتبني الحكومة المصرية، ممثلة في المتحدثين باسم وزارة الخارجية والسفارة المصرية ببرلين وشيخ الأزهر في تصريحاته العلنية، الخطاب الرسمي الألماني واعتمادها عبارة الحادثة الفردية حين الإشارة إلى قتل مروة الشربيني. أحترم حرص المسؤولين المصريين على الابتعاد عن التعميم والامتناع عن الإطلاق الجزافي للاتهامات بحق مجتمع بأكمله، كما أدرك الرغبة في الحفاظ على علاقات التعاون الجيدة مع ألمانيا الدولة المهمة في المنظومة الغربية، وسعي شيخ الأزهر إلى مواصلة حوار الأديان وتثمينه للدور الرائد الذي تلعبه الحكومة الألمانية والهيئات الدينية هناك في هذا الصدد، ومع ذلك، ليس لهذه الأمور جميعها وعلى أهميتها أن تعمي الأبصار عن الأوضاع الخطيرة في ولايات ألمانيا الشرقية أو تدفع الحكومة المصرية إلى التساهل في حقوق رعية لها قتلت بلا ذنب، بل يظل لزاماً عليها أن تطالب نظيرتها الألمانية، علانية وليس فقط خلف الأبواب الموصدة، باتخاذ كل الإجراءات لضمان حقوق القتيلة وأسرتها ولمواجهة العنصرية والعداء للأجانب.

* أكاديمي مصري