نقرأ على غلاف كتاب «الآثار الشعرية» للشاعر راينر ماريا ريلكه الصادر عن «دار الجمل» المقطع التالي للروائي روبرت موزيل: {لم يكن راينر ماريا ريلكه متكيّفاً وحقبتنا. ولم يفعل هذا الشّاعر الغنائيّ الكبير سوى أن قاد الشّعر الألمانيّ إلى الكمال للمرة الأولى في تاريخه. لم يكن إحدى ذرى عصرنا هذه، بل واحد من تلك الأعالي التي يسير عليها مصير الفكر الإنسانيّ من عصر إلى عصر. إنّه ينتمي إلى سّيرورة التراث الألماني الطّويلة الأمد لا إلى راهنه... ولا يحتاج المعنى (في أبيات ريلكه)، حتّى ينمو، إلى الاحتماء بجدار أية أيديولوجية، ولا أيّة نزعة إنسانوية، ولا أيّ نظام فكريّ، بل هو ينبثق بلا دعامة، من أيّة جهة كانت، معلّقاً هكذا، ومعهدواً بد دوماً، وبمنتهى التحرّر، إلى حركة الفكر». الأرجح أن مثل هذا المقطع يختصر الحديث عن شعر ريلكه الذي عاد يشغل المترجمين في هذه الأيام، إذ تُرجمت أعماله الكاملة إلى الإنكليزية وثمة «تهافت» مضمر في العالم العربي لترجمته سواء عن الفرنسية أو الألمانية، واستعراض لدى البعض في الكشف عن قصيدة النثر لديه. المهم القول إن ريلكه يبدو حاضراً بقوة في ميدان الترجمة، لكن لا نعرف مدى أثره على الشعر العربي عموماً، ويمكن اعتبار الترجمة التي أنجزها الشاعر العراقي كاظم جهاد لأعمال ريلكه الشعرية (عن الألمانية) الأكثر جدارة ورصانة سواء لناحية الهوامش المرفقة بالنص أو مقدمة المترجم، إضافة إلى دراسة الباحث غيرالد شتيغ. الحال أنّ كاظم منذ يفاعته بدا منشغلاً في ترجمة ريكله، إذ نشر في مجلة الكرمل ترجمته لـ{مراثي دينو» في الثمانينات من القرن الماضي، ثم نشر بعدها بسنوات، في المنبر ذاته، ترجمته لـ{سونيتات الى أورفيوس». إلاّ أنّ الفوارق التي لاحظها بين مختلف الترجمات الموضوعة بالإنكليزية والإسبانية لأشعاره جعلته يعزف عن التعويل عليه، وصار من المسلّم به لدى جهاد أن الشعر لا يمكن ترجمته إلاّ عن لغته الأصلية. أشعار ريلكه التي ترجمها جهاد عن الألمانية هي المجموعات التي أصدرها الشاعر وأشرف على طبعها بنفسه، بمعزل عن الأشعار التي كتبها بلغات أخرى، وعن القصائد التي ألفها في صباه وشبابه ثم تنكر لها ومنع إعادة طبعها، وبمعزل أيضاً عن أشعارة المتفرقة الصادرة بعد وفاته. يقول جهاد إن أشعار ريلكه من وراء القبر تشكل بمجموعها ديواناً لا يقل ضخامة عن الديوان الذي ترجمه بأجزائه الثلاثة، ويعتبر جهاد أن ريلكه بدأ مسيرته شاعراً طموحاً، لكن على سذاجة وتسرّع، راغباً في أن يجد في الشّعر دعامة لوجود داخلي كان كثير الصّدوع هشّاً. {الارتقاء المعجز» بتعبير الروائي النمساوي ستيفان تسفايغ، الذي قام به ريلكه بعد بداياته المتلكئة بسنوات يكاد يشكّل إحدى أكبر الأساطير في تاريخ الشعر. ولا يقلّ أسطورية عن هذا الارتقاء الشعري صمود ريلكه أمام الآثار النفسية الشالّة التي كانت تنتج من صدوعه تلك، جابهها بالشعر وحده، رافضاً الاستعانة بالتحليل النفسي أو سواه. يتوقف جهاد في تصديره لأشعار ريلكه عند بعض مسائل في مسيرة هذا الشاعر ولغته، إذ لم تكن اللغة، خصوصاً الشعرية منها، تشكل في اعتقاده مادة سهلة المعالجة. بل إن التعبير الناجح، أو {التعبير وكفى}، إنّما هو ثمرة استيلاد فعليّ وإيضاحات متوالية، أمام مادة العالم الكثيفة، مادة اللّغة التي قد تكون أكثف منها، إذ آمن بأنّ العلة قدر الفنان، شرطه الوحيد الممكن، أثناء الممارسة الفنية على الأقل. كلّ ما يأتي به الآخرون بهذا الصدد قد لا يكون سوى «إساءات فهم» يتراوح حجم خطورتها، و{وصفات» الإبداع و{نصائح» البراعة لا تفيد في شيء أمام امتحان الوجود كله الذي تمثّله الكتابة. على أنّ الأشياء الوافرة التي ينبغي أن يكون الشاعر عاشها واختزن منها صوراً دقيقة ومشخصة، ينبغي أيضاً أن يحوّلها في داخله. في هذا المجال كان ريلكه يعتبر أن مهمة التحويل هذه يقدر عليها الملائكة أكثر من سواهم. بالتالي، على الشاعر أن يحوز نظرة الملاك.وعي بالموتعالم ريلكه زاخر ولا يمكن اختصاره بمقالة، لكن ينبغي التنبه عنده إلى مواضيعه الشائكة، فهذا الشاعر ابن مدينة براغ كتب في الحيوانات، مثلما كتب في الآلهة والبشر والأشياء والأساطير، قصائد كثيرة. ومما لا شك فيه أنّ المرثية الثامنة من «مراثي دوينو» كانت بين قصائده التي تستحضر أكثر حيوان تعرضاً للنقاش فهي لا تكتفي باستحضار حيوانات، بل تطرح مسألة الحيوان، أو بالأحرى مسألة العلاقة بالفضاء كما يعيشها الإنسان وكما يعيشها كائن الطبيعة.يرى ريلكه أن الإنسان لا يتمتّع بحرية الحركة التي يتمتع بها الحيوان، لأنه مكبل بوعيه بالموت، الذي لا يحس به الحيوان إلا عندما يداهمه الموت. والوقفة الأشهر والأكثر إساءة للفهم التي تعرضت لها هذه المرثية هي تلك التي قام بها هايدغر إذ قلل من أهمية ريلكه لصالح سلفه الشاعر هولدرلين. وركز هايدغر على المرثية الثامنة، وأضاف إليها قصيدة مشابهة ووجيزة من أشعار ريكله بعد رحيله، مختزلاً عالمه الّشعري كله. ورأى في فهم ريلكه للفضاء ولعلاقة كل من الإنسان والحيوان نكوصاً إلى الغريزة واللاشعور، يلحقه بشوبنهاور ونيتشه وعالم النفس فرويد. فيما يعتبر جهاد أن هايدغر يقرأ المرثية الثامنة بمفردها، عازلاً إياها من سياقها ومتناسياً علاقتها بالمراثي الأخرى.العشاقكتب ريلكه في العشق كثيراً. وكان له في ما كان يدعوه «الحزازة العميقة بين الفن والحياة» نظرة ثاقبة، لأنه عاش في حياته وفي فنه نتائج هذه «الحزازة». أحد وجوه المأساة في نظره أن الحياة لا تسمح في العمق في فعلين أساسيين بالقدر ذاته. هكذا اضطر هو إلى تأجيل استجابته لنداء هذه العاشقة أو تلك غير مرة ليبدو أمام القصيدة في حالة استعداد تام ما كانت تؤتي ثمارها دائماً. في المقابل، وربما للسبب نفسه، كان شديد الافتتان بالعشق الذي لا استحواذ فيه، لا ينتظر المرء منه شيئاً، عشق يتخطى موضوعه، وجد الشاعر تجسيده في نساء عظيمات، مهجورات كبيرات. النافل أن ريلكه عندما تعرّف إلى امراة تدعى لو سالومي، كان في الثانية والعشرين من العمر وهي في السادسة والثلاثين. أُغرِمَ بها حتى الاحتراق، على رغم فارق السن بينهما، مع ذلك، كانت علاقته معها قصيرة الأمد، ومثلها قصصه العاطفية كافة، بما فيها زواجه من النحاتة كلارا وستهوف. التقت لوسالومي ريلكه في ميونيخ في 12 مايو (أيار) 1897 بواسطة الروائي جاكوب واسرمان، فاشتعلت شرارة الحب بينهما، ولم يكن ريلكه معروفاً بعد، بل لم يكن يتوقع أحد أنه سيصبح أحد كبار شعراء القرن. بعدما التقاها راح يكتب لها رسائل تفوقت على الشعر: «في يوم ما، وبعد سنوات طويلة / سوف تعرفين ماذا كنت بالنسبة إلي/ كنت نبع الجبال للعطشان/ أي عرفان بالجميل نحوك! لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء/ والشمس إلا فيك... من خلالك».أمضى ريلكه ولو سالومي سنوات معاً مع أن هذه الأخيرة كانت متزوجة من شخص يدعى البروفسور أندرياس، سئل مرة : هل تزعجه تصرفاتها وغيابها عن البيت؟ أجاب: «ثمة أشخاص عاقلون جداً، خلقوا للزواج والحب الهادئ والاهتمام بالبيت ورعاية شؤون الأطفال وجلي الصحون، باختصار خلقوا لوظيفة الزوج أو حتى «الزوج الأبدي»، إنهم محظوظون وسعداء لأنهم متزوجون من سيدات لامعات ونادرات يمضين نصف حياتهن، على الاقل، خارج البيت بهدف الحب والعشق، ولوسالومي كانت من هذا النوع من النساء التاريخيات اللواتي يحتجن الى زوج يتكئن عليه فى البيت ثم إلى حبيب حر أو عاشق مجنون. هكذا تقام العلاقة «التوازنية في لجة الحياة». كذلك لم يهتم ريلكه بالحدود الفاصلة بين العقل والجنون إلا لإنكارها...الفكرة اللامعة التي كتبها غيرالد شتيغ عن ريلكه (عدا عن القراءة المتأنية لشعره) هي ملاحظته أن هذا الشاعر اتخذ لنفسه شعار «أتعذب لأصير سيداً»، أي أن يقبل بالآلام طريقاً إلى السيادة وبلوغ منزلة المعلّم. وقال عن نفسه في الملحوظة ذاتها إنه «معتل الصحة ومهدد بالجنون». وهذا الخوف من الوقوع في حبائل الجنون والانتهاء إلى مصير مشابه لمصير نيتشه كان ريلكه يتقاسمه مع معاصره النمساوي الذي مات منتحراً غيورغ تراكل، ونجد تعبيراً عن هذا الخوف في عمل متأخر له، وهو نصه النثري المعروف «وصية» المكتوب في 1925. كذلك في كثير من رسائله إلى لو أندرياس سالومي، خصوصاً رسائل الأعوام 1912 و1914 التي تكرر كافة النبرة ذاتها.يبدو واضحاًَ أن ريلكه الشاب كان يحلم بالمجد والعظمة، لكن اللافت أنه وجد غالبية مراجعه في الحياة العسكرية، وهجر الكلية العسكرية بسرعة، نظراً إلى هزال جسمه واعتلال بنيته النفسه في آن. وتتضمن بعض نصوصه إحالات الى عهود إمبراطورية أو عسكرية عدة أحدثها عهد نابليون بونابرت. كان ريلكه شاعراً عبقرياً قال عنه مجايله روبرت موزيل: «لم يفعل شيئاً سوى كونه أول مَنْ أوصل الشعر الألماني إلى الكمال». هكذا نقول عنه باختصار، وكان جديراً أن كاظم جهاد نقل أشعاره إلى العربية وفعل الأمر نفسه سابقاً مع الشاعر الفرنسي رامبو.
توابل
راينر ماريا ريلكه إلى العربيّة... على الشاعر أن يحوز نظرة الملاك
02-11-2009