عنون الروائي اللبناني الأصل راوي الحاج روايته الجديدة «الصرصار»، التي صدرت في بريطانيا عن «دار هاميش هاملتون»، وهو يدرك أن الصرصار رمز المخلوقات البدائية التي تعيش درك المجتمع الأسفل على عكس الفراشة التي تبحث عن الزهور والطبيعة. كذلك يعرف الروائي أن رمزية هذه الحشرة باتت نافلة في الروايات العربية أو العالمية من فرانز كافكا إلى دويستويفسكييعاني الراوي في «الصرصار» من البرد والجوع، وهو المهاجر إلى بلاد الاغتراب في كندا، يستنجد بالسرقات في صراعه لأجل البقاء. يتساءل عمّا يفعله في هذا المكان، وكيف انتهى جثة ترتجف باستمرار في مدينة محكومة بالبرد والصقيع؟ ولا يعرف القارئ الإجابة إلا في جلسات العلاج النفسي التي يبرز فيها حوار رشيق يكاد إيجازه يكون عدائياً. تحاول الطبيبة النفسية جنفييف إعادة تأهيله ولملمة حياته بعد محاولته الانتحار، لكنه يجرّد فعله من المشاعر ويجعله وجودياً ومجانياً. ولأنه أحب الأماكن القذرة المعتمة أغلق الستائر دوماً في غرفته الكابوسية الملأى بـمئات الصراصير التي يفضل قتلها بحذائه بدلاً من استخدام المبيدات.يؤمن الراوي الذي لا اسم له بأنه نصف إنسان ونصف صرصار، يفاخر بأن طبيعته الثانية تمنحه الحرية والقدرة على الاختفاء والتسلل، هذا هو خيط الرواية.ليس هدفنا هنا عرض رواية الحاج، بل التأمل في مصير الصرصار في الروايات، إذ يبدو واحداً، فالروائي اللبناني حين أصدر روايته قيل له إنه متأثر برواية «المسخ» لكافكا فنفى ذلك، موضحاً أنه يميل إلى روايات الروسي غولول الذي يكتب عن الإنسان الهامشي. الأرجح أن الحاج تأثر بقصة «الأنف» لغوغول القريبة من عالم كافكا التحولي أيضاً، وربما برواية «الانسان الصرصار» للروائي الروسي دويستويفسكي التي تعتبر إحدى أكثر الروايات تأثيراً في تاريخ الأدب الأوربي، ومثالاً على مهارة دوستويفسكي في مجال علم النفس، إذ يصوّر الدوافع المتناقضة في سلوك الشخصية. بطل دويستويفسكي (من دون اسم) استهل كلامه بعبارتين عجيبتين: «أنا رجل مريض، أنا جبان...» الخ. هنا يتلاقى بطل رواية الحاج مع بطل صاحب «المقامر» و{المراهق» الذي قال عنه الروائي توماس مان: «أول مبدع نفساني في الآداب العالمية على مر العصور»، وقال عنه فرويد: «لقد تعلمت سلوك النفس البشرية من روايات دويستويفسكي». كافكا الذي يعتبر وريث دويستويفسكي في الرواية كان الأشهر في الكتابة عن الصرصار، ليس كحشرة، بل كمرمزية للإنسان المقهور. يدلنا في روايته المعروفة «المسخ» بعد أسطر قليلة من بداية القصة، أن الكارثة التي حاقت ببطله وحوّلته صرصاراً أمر حقيقي تماماً وليس خيالياً. فبطل الرواية فغريغور سامسا يستيقظ ذات صباح ليجد أنه قد تحوّل صرصاراً فيحاول أن يتعامل مع الحادثة بعقله، وأن يجعل لنفسه مخرجاً منها أو حولها. فهو الموظف المبتئس بوظيفته والمرهق تحت ضغط احتياجات أسرته، اذ يعيل والديه وأسرته وأخته، ويتحوّل من مصدر احتفاء إلى مصدر ازعاج.إنه في طبيعة الحال لن يخرج من غرفته ولن يدع أحداً يدخل، فيجزع والداه وأخته لأنه قد يتأخر عن عمله ويأتي رئيس المحاسبين ليحقق في تكاسله، وعلى رغم ذلك يؤخرهم، محاولاً بصوته المتغيّر أن يسترضيهم ويطمئنهم، لكن الرئيس يقول: «ليس هذا صوتاً بشريا». وحين يهمّ بالرحيل يقول سامسا: «... إلى اين تمضي، سيدي، إلى المكتب؟ هل لك أن تشرح شرحاً صادقاً كل ما ترى؟ فقد يعجز المرء إلى حين، لكن هذه هي اللحظة المناسبة لأن تذكر خدماتي السابقة (...) أنا التزم مخلصاً خدمة الرئيس، وأنت تعلم ذلك علم اليقين. أضف الى ذلك أن عليّ ان أعيل والديّ وأختي. أنا في مصاب أليم، لكنني سوف أتعافى». لكنه يخفق في التأثير على رئيس المحاسبين الذي ينسحب، فيدرك غريغور أنه لا يجوز في أية حال أن يسمح له بالمضي وهو في تلك الحال الذهنية إذا أراد لمركزه في المؤسسة ألا يتعرّض لأبلغ الخسارة. صار هم بطل كافكا بعد تحوّله صرصاراً كيفية وصوله إلى المكتب في الوقت المناسب. لم يكن في رأسه سوى الطاعة والخضوع للنظام الذي اعتاد عليه في مهنته. يدرك القارئ أن البطل في شكله الصرصاري هو التعبير النقي والواضح لشخصية الكاتب نفسه. أعمال كافكا تجسيد لإحساسه بالخوف، فحياته ترجمة لعلاقته بوالده المتسلط. كتب له عام 1919 رسالة تكشف النقاب عن علاقتهما: «أنت وراء معاناتي كلها». توفيق الحكيمثمة مسرحية بعنوان «مصير الصرصار» للكاتب المصري توفيق الحكيم، وهي احدى أمتع مسرحياته، تحكي قصة زوج يخاف من زوجته مثلما يخاف الصرصار من ممسحة الخادمة، هذا رأي الحكيم وهو يكتب أحاسيس الزوج وهو يراقب صرصاراً سقط في «البانيو»، وطوال القصة يحاول الخروج منه وكلما خطا خطوتين سقط فيه مجدداً حتى جاءت الخادمة بأمر من «ستها» ومسحته بالـ{خيشة» ووقع في الـ{بالوعة}، فبكى الزوج بعد أن رأى مصيره ممثلاً في الصرصار... ينقسم الحوار في تلك المسرحية إلى جزئين، الأول مكانه داخل مملكة الصراصير الموجودة في أحد شقوق حمام المنزل، أما الثاني فمكانه غرفة نوم وحوض الحمام الواسع الذي شهد إصرار الصرصار على البقاء على رغم الصعوبات التي أعاقته على تحقيق ذلك، خصوصاً كون حوض الحمام أملس وعلى رغم ذلك لم تفقد هذه الحشرة الأمل وظلت تحاول مرات كثيرة الصعود من المأزق إلى درجة أن إصرارها على الكفاح ومحاولة النجاة وحتمية فشلها جعلت صاحب المنزل يقف ساعات طويلة يتأمل إصرارها ومحاولاتها المستميتة لتحقيق المستحيل، والمسرحية تمثّل محاولة لفهم حياتنا كيف تسير عبر حوار هؤلاء الصراصير.نظريةلكثرة استعمال الصرصار في الأدب والحياة تشكّلت «نظرية الصرصار»، فأمام التخبّط الكبير في الاقتصاد العالمي بدأنا نسمع بنظريات اقتصادية، أبرزها «نظرية الصراصير» كما كتب كل من جورج ويهرفريتز وجون سباركس حول القروض الأميركية وأزمتها قائلين: «إذا كانت أزمة الرهونات العقاريّة ذات التصنيف الائتماني المنخفض هي الصرصار الذي ينقض من تحت بالوعة المطبخ ويخيفك كثيراً، فما الاحتمالات بأن يكون هذا الصرصار وحيداً». الصرصار للشاعر الإنكليزي أنتوني تويت لم يكن بيتي.كانت طوكيووعتمة العاشرة والنصف، تقريبا.والمطبخَ،لمستُ الزر،كان جاثماً على حافّة المنضدة.ديناصوري،بسحنة داكنة،صامتا ساكناً لا يُبْدِي حراكاًأفرعه الرّيشيّة تترقب، كما يبدو،لحركة قادمة وبصبر قاتل ينتظرني.تمعن كل منا في الآخر.ظل ساكنا،لم أتحرك ، تابعته بصمت.مرهقا من السفركنتأشتهي نعاسي،لكنَّ النوم بَدا بعيداً،مثلما كنت أنا بعيداً.تفحصتهُ كما لو كان باليابانيّة.«أبورا موشي» كان اسمُه،عجباً.. ماذا تعنى «أبورا» ؟؟،فكلمةُ «موشي» تعني حشرة،أو «دَسْتَة» من المعاني الأخرى، في اليابانيّة؟مِثْلَ نوعٍ من الحِسَاء، مسلوقا وصافياً.لكنه كان «ساموراي»مُصفحاً،مُخوَّذَا،متباهياً وفخورا.واجَهْتُهُ بسذاجة،خشيتُ أن يدفعني جانباً بسيفهأو يقفزُ عَبْرَ المنضدة.تناثر الغضب، في شعري المَعْرُوق.كانت ليلة سبتمبريّة حارّةٌ ، و كذلك كنت أنا.مرهقاً من السّفر. «سَأنهي هذا الأمر»-رائحة الخشب الكريهة تصيبني بالغثيان.قلتُ لنفسي،«مللت التخيلات».خَلَعْتُ نعلي، وقذفتُهُ نَحْوَهُ.انزلقَ من على المنضدة، بقفزة في نعومة الوحلعاد مسرعا منتحياً جانباً نحو الحوض.قذفت نفسي تجاهَهُوسحقتُهُ بالنعل، ثمَّ انحنيت.تبعثرت قشوره. سالت دماؤه على خشب الأرضيّةارتعشَ باستهجان لم يكتمل،سكن، ثم مات.مسَحْتُ نعلي بقطعة جريدة،غسَلْتُ يديّ، ثمَّ تلمَّسْتُ طريقي إلى السرير.آه.. تلك قصتي، أو قصيدتيرتلتها في تناغم كي أنهيها.لكن!ما الصرصار؟..وما القصيدة؟ولم حُكِيَت القصّة؟مَنْ يدري؟!الصّرصار في المطبخ حقيقةوالصرصار في القصة أكذوبة شاعر.فالحشَرةُ كانتْ نبيلة، وصلبة.إنما هو الكاتبُ يبعث الحياة في الأشياء الغامضة!ترجمة: عطية صالح الأوجلي
توابل
الصرصار في الرواية حشرةٌ تعبّر عن مأزق الوجود
04-08-2009