بعد قيام لاعب الشطرنج بنقلته الأولى، عليه انتظار خطوة خصمه قبل أن يتمكن من تنفيذ نقلته الثانية، وفي لعبة الشطرنج الدبلوماسية التي تتمحور حول برنامج إيران النووي، حان دور إيران لتقوم بنقلتها التالية.لربما تأمل القوى الغربية في تعزيز العقوبات، التي فرضتها على إيران بقرار فردي منها أو عبر مجلس الأمن في الأمم المتحدة، بإطلاقها جولة جديدة من المفاوضات، إلا أن طهران لا تبدو متجاوبة مع هذه الخطوة. تسعى كاثرين أشتون، الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، للاجتماع بكبير المفاوضين النوويين الإيرانيين سعيد جليلي خلال الأسابيع القادمة، كذلك ذكر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الأسبوع الماضي أن فرنسا تأمل استئناف المحادثات مع إيران بشأن صفقة تبادل الوقود التي أبرمتها تركيا وإيران عشية التصويت على عقوبات الأمم المتحدة. صحيح أن القوى الغربية تجاهلت هذه الصفقة في سعيها لفرض عقوبات إضافية على إيران، غير أن ساركوزي صرّح يوم السبت أن هذه التدابير الجديدة لا تهدف "إلى معاقبة إيران، بل إلى إقناع قادتها بالعودة إلى المفاوضات".تبدو هذه استراتيجية "مزدوجة" غايتها الجمع بين العقوبات والتفاوض، لذلك حظيت رزمة مجلس الأمن بدعم روسيا والصين، إلا أن الشكوك لاتزال تراود هاتين الدولتين بشأن فرض الولايات وأوروبا قيوداً إضافية على إيران، فضلاً عن ذلك، أشار البعض في واشنطن إلى أن البيت الأبيض دعا إلى عقوبات جديدة ليؤمن غطاءً سياسياً في الولايات المتحدة للأساليب الدبلوماسية المستمرة، خصوصاً أن الكونغرس الأميركي يطالب بخطوات أكثر صرامة،لكن طهران تخطط لفرض شروط جديدة على المفاوضات هدفها "معاقبة" الغرب بسبب الجولة الأخيرة من العقوبات، فقد ذكر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الأسبوع الماضي: "وضعنا شروطاً ستجعلكم بإذن الله تنالون عقابكم وتجلسون إلى طاولة المفاوضات مثل ولد مهذب". ثم أكّد أن إيران ستُعلن هذه الشروط قريباً.قد يكون هذا مجرد تهويل، إلا أن الإيرانيين يتقنون لعبة موازنة القوى في مفاوضاتهم النووية مع الغرب، وتشكّل العقوبات الجديدة، التي صُممت للضغط على إيران وحملها على العودة إلى طاولة المفاوضات، ورقة مقايضة لأن القوى الغربية ستطالب بثمن لترفعه، ولكن بالنظر إلى التاريخ القريب، نتوقع أن ترد إيران على هذه العقوبات بسعيها لكسب أوراق مقايضة خاصة بها، إما من خلال الشروط التي ستفرضها على المحادثات الجديدة وإما باتخاذها خطوات تضغط بها على الغرب.ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تخصيب اليورانيوم إلى 20%، أمر يُقرّب إيران أكثر من أي وقت مضى إلى القدرة على إنتاج مواد يمكن استخدامها في الأسلحة. بدأت إيران في مطلع هذه السنة بإجراء تجارب لتخصيب اليورانيوم إلى نسب أعلى، وتزعم أن هدفها من ذلك إنتاج وقود لمفاعل الأبحاث الطبية في طهران، حتى عندما وافقت إيران على صفقة تبادل الوقود مع البرازيل وتركيا بغية تأمين الوقود لمفاعل الأبحاث، لمحت إلى أنها ستواصل تخصيب اليورانيوم حتى نسبة 20%، وعندما ردّ الغرب على الصفقة البرازيلية التركية بتبنيه عقوبات إضافية، حضّ علي لاريجاني، كبير المفاوضين النوويين السابق رئيس مجلس الشورى الإيراني، الحكومة على مواصلة التخصيب حتى نسبة 20%.بعيد تبوء لاريجاني منصب كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين عام 2005، أحدثت طهران تبدلاً أساسياً في مقاربتها إلى التفاوض بشأن هذه المسألة، ففي ردها على عرض سابق قدّمه الاتحاد الأوروبي، وافقت إيران في أواخر عام 2004 على تعليق تخصيبها اليورانيوم مع مواصلة التفاوض بشأن حصولها على تنازلات سياسية واقتصادية مقابل عقد اتفاق نووي، لكن الإيرانيين شعروا أن الأوربيين راحوا يماطلون، فبما أن إيران لا تخصّب اليورانيوم، فلا داعي أن يسارع الأوروبيون إلى تقديم تنازلات مهمة، لذلك لم تفضِ المحادثات إلى أي نتيجة.وفي أواخر عام 2005، استأنفت إيران تخصيبها اليورانيوم، فقد تبيّن أن طهران تتمتع بنفوذ أكبر خلال المفاوضات عندما تعمل أجهزة الطرد المركزي التي تملكها بلا هوادة بدل أن تبقى متوقفة. وفيما ظلت إدارة بوش على الحياد، مطالبة أن توقف إيران عملية التخصيب وأن يوجّه الأوروبيون المفاوضات نحو تحقيق هذه الغاية، أنتجت طهران حقائق جديدة على أرض الواقع بدلت مفاهيم المواجهات الدبلوماسية.أُرغم الرئيس الأميركي جورج بوش على التخلي عن إصراره على أن يكون تعليق التخصيب شرطاً مسبقاً لبدء المحادثات، وعندما غادر بوش منصبه، كان إصراره على عدم السماح لإيران بإتقان تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم قد أصبح بلا جدوى، وبحلول تلك الفترة، كانت إيران قد أتقنت بالفعل تخصيب اليورانيوم. وسلمت القوى الغربية بأنه من غير المنطقي توقع (كما أصرّ بوش) أن تتخلى إيران عن حقها بتخصيب اليورانيوم كجزء من برنامج يُعنى بالطاقة.يمكن القول إن الإيرانيين اتبعوا الاستراتيجية الدبلوماسية نفسها التي اعتمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، فقد بدأ شارون منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين بإنشاء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة بشكل مكثف، متحدياً القانون الدولي والسياسة الأميركية، وبعد ثلاثة عقود، تحوّلت هذه المستوطنات إلى مدن صغيرة، ونتيجة لذلك، اضطرت الولايات المتحدة إلى القبول باحتفاظ إسرائيل بهذه المدن في أي اتفاق على إقامة دولتين يُعقد مع الفلسطينيين. وعلى نحو مماثل، بإقدام الإيرانيين على التفاوض وأجهزة الطرد المركزي تعمل، أجبروا الغرب على التكيّف مع حقيقة جديدة.تدرك إيران أن الغرب يحتاج إلى حلّ دبلوماسي لأن الحل العسكري يبدو ضعيفاً، كذلك تعي أن الانقسام بشأن السبل الأنسب للضغط على إيران مازال قائماً بين القوى الغربية من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. وفيما تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لزيادة العقوبات بغية استهداف مجالات أخرى غير المتفق عليها مع موسكو وبكين، سترد إيران على الأرجح برفعها ثمن الحوار.ومن الممكن أن يؤدي نجاح إيران النسبي في لعبة الشطرنج الدبلوماسية النووية هذه إلى توسّع طموحاتها، ولا شك في أن وكالات الاستخبارات الأميركية تُجمع اليوم على أن القادة الإيرانيين يريدون بلوغ عتبة القدرة على إنتاج أسلحة نووية من دون تخطيها، إلا أن البعض في هذا النظام قد يصرون على تجاوزها.وتشكّل الأسلحة النووية بحد ذاتها مصدر نفوذ دبلوماسي كبير، فكما يُظهر مثال الهند وباكستان وكوريا الشمالية، ما إن يُنتج نظام هذه الأسلحة حتى يُعامل بهدوء ورقة، ويسارع الأعداء كما الأصدقاء إلى إقامة علاقات عملية معه.يبدو أن كل طرف يرفض شروط الآخر لعقد صفقة، ويأمل تعزيز موقفه بزيادة الضغوط على الطرف الثاني، ولا تتوقعوا أي انفراجات في المستقبل القريب، فقد تتحول لعبة الشطرنج الدبلوماسية إلى مباراة مصارعة محترفة.* محلل في نيويورك يكتب في مدونة tonykaron.com.
مقالات - Oped
لعبة الشطرنج النووية الإيرانية
24-06-2010