حذّر وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك الأسبوع الفائت بالقول: "في حال أن هناك كياناً سياسياً واحداً فقط بين نهر الأردن والبحر المتوسط يُدعى إسرائيل، سيكف في النهاية عن كونه كيانا يهودياً أو ديمقراطياً. إن صوّت الفلسطينيون في الانتخابات فسيكون ذلك بمنزلة قيام دولة ذات قوميتين، وإن لم يصوّتوا، فستنشأ دولة عنصرية".  

واجه الرئيس الأسبق جيمي كارتر انتقادات منذ ثلاثة أعوام لتشبيهه الجمود بين إسرائيل والفلسطينيين بنظام الفصل العنصري، نظام دولة جنوب إفريقيا الذي لم يعزل فئةً من الشعب بكاملها فحسب، إنما أيضاً أنكر عليها حقها في المواطنة. وهكذا كان من السخرية أن يحذّر قائد إسرائيلي بارز شعبه من أن الأمر عينه ينطبق على الوضع الراهن في الأراضي التي اجتاحتها إسرائيل في عام 1967. كان باراك يقصد بذلك التحذير من أنه إلى أن يُمنَح الفلسطينيون دولة مستقلة خاصة بهم، سيدرك العالم في النهاية أن حياة هؤلاء خاضعة لسيطرة دولة إسرائيلية تنكر عليهم حقهم بالمواطنة، ما يزيد احتمال فرض نوع العزلة والعقوبات الدولية الذي ساعد على تغيير جنوب إفريقيا.   

Ad

إن بدا وزير الدفاع باراك ساخطاً بعض الشيء، فذلك على الأرجح لأنه يسبح عكس الموجة السياسية المحلية في إسرائيل في سعيه إلى استئناف الزخم باتجاه حل بإقامة دولتين. بغض النظر عن المخاطر على المدى الطويل، لا ترى إسرائيل اليوم أي عواقب في الحفاظ على الوضع الراهن، فالفلسطينيون محاصرون في غزة ومحاطون بجدار في الضفة الغربية. نادراً ما تقع الهجمات الإرهابية اليوم ومعظم الإسرائيليين لا يكادون يتنبهون إلى وجود الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك، تطرق إسرائيل باب عضوية منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين (أويسيد)، وذلك بفضل اقتصادها المزدهر الذي يزداد اندماجاً مع اقتصادي أوروبا والولايات المتحدة؛ ويتّصف أسلوب حياتها أكثر فأكثر بالطابع الأميركي؛ وثقافتها مندمجة بالكامل مع الغرب المعولم.   

انهارت عملية السلام في تسعينيات القرن العشرين وتحوّلت إلى دوامة من العنف الدموي، لكن معظم الإسرائيليين مضوا قدماً فحسب. وفق استطلاعات الرأي، قد يفضل هؤلاء عقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين، لكن معظهم لا يعتقدون أن مثل هذا الاتفاق ممكن. وعد إسحق رابين في الماضي بـ"مواصلة عملية السلام وكأنه لا وجود للإرهاب ومكافحة الإرهاب وكأنه لا وجود للسلام"، لكن بعد أن كُبح لجام الإرهاب اليوم إلى حد كبير، لا يشعر الإسرائيليون بأي حاجة طارئة إلى السلام.

حتى بالنسبة إلى الشريحة الأكثر اعتدالاً في القيادة الفلسطينية، فإن حل الدولتين، على الأقل، يتضمن ضرورة الاستناد إلى حدود عام 1967 كأساس للمفاوضات، وقبول القدس الشرقية كعاصمة فلسطين، لكن الحركة السياسية المعتدلة في إسرائيل راحت تميل بشكل ثابت إلى اليمين منذ عهد رابين، وباتت أدنى المطالب المقبولة بالنسبة إلى الفلسطينيين المعتدلين أكثر من أن يقبلها الإسرائيليون. هذا وأصبح المستوطنون المسلحون، الذين يؤمنون بأن الله أعطاهم الحق في بناء منازلهم في الأراضي المحتلة، جزءاً من التيار الرئيس، المُمثَّل بشكل غير متكافئ بهيئة الضباط المتوسطة المستوى في الجيش وقاعدة دعم مهمة في حكومة نتنياهو. يُذكَر أن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، هو نفسه من المستوطنين. فضلاً عن ذلك، هددت النواة العقائدية الدينية والقومية لحركة المستوطنين بالتصدي بعنف لأي محاولة لنقلهم، وبالنسبة إلى إسرائيليين كثر، فإن تقرير التكلفة والمنفعة ينصح بعدم سلخهم عن أراضيهم، فلمَ المخاطرة بحرب أهلية محلية من أجل إعادة الأرض إلى الفلسطينيين الذين قد يحوّلونها لاحقاً إلى قاعدة لإطلاق الصواريخ عليهم؟ ربما في جيل آخر.

قد يكون الوضع بالنسبة إلى الفلسطينيين صعب الاحتمال، لكن إسرائيل لا ترى ببساطة أي عواقب فورية بالحفاظ على الوضع الراهن، وهكذا فإن التحدث إلى الإسرائيليين عن شبح الفصل العنصري و"القنابل الموقوتة" ديموغرافياً هو أشبه بإخبار الأميركيين بضرورة إصلاح الأمن الاجتماعي. لا أحد يختلف مع هذا الرأي، لكن لا تتوقعوا الكثير.

أطلق باراك تحذيره في الأسبوع عينه الذي سجّلت فيه جنوب إفريقيا الذكرى العشرين لإصدار الرئيس فريديريك ويليم دي كليرك آنذاك قراره بإطلاق سراح نيلسون مانديلا وبدء المفاوضات لإنهاء نظام الفصل العنصري. لا شك أن ذلك كان قراراً جريئاً من دي كليرك، لكن من المهم ألا ننسى أن تغيير رأيه ليس ناجماً عن إدراكه بطريقة ما عدم أخلاقية هذا النظام، فبحلول عام 1989، ومع انتهاء الحرب الباردة، أُبلغَت بريتوريا بأنها لم تعد تستطيع الاعتماد على دعم الولايات المتحدة لإعاقة العقوبات وغيرها من الضغوط الدولية باسم التضامن ضد الشيوعية. بدأت العقوبات المالية آنذاك تلسع وتبيّن أن ثمن الحفاظ على الوضع الراهن باهظ. فأدرك دي كليرك، في خطوة يستحق عليها التقدير، بأن شعبه سيحقق مكاسب أكبر عند التفاوض من مركز قوة نسبية. وقد ساعده الاضطراب السياسي في المناطق السوداء، فضلاً عن العقوبات الموسّعة والعزلة المتنامية، على إقناع قاعدته الانتخابية بذلك.   

لا يغّير القادة السياسيون عادةً مسارهم بسبب تغييرهم فلسفتهم، إنما لأن نسبة التكلفة إلى المنفعة في الحفاظ على الوضع الراهن لم تعد منطقية، وقد صحّ ذلك بالنسبة إلى رابين، الذي اعتمد اتفاق أوسلو بعد اقتناعه بأن إسرائيل لا تستطيع الاعتماد للأبد على الدعم الأميركي غير المشروط، وأيضاً بالنسبة إلى ياسر عرفات ومحمود عباس. بحسب تحليل التكلفة والمنفعة الخاص برابين، تبيّن أن مصالح إسرائيل الفضلى تتطلب المضي قدماً باتجاه حل بإقامة دولتين من مركز قوّة، بينما أدرك القادة الفلسطينيون، بقدر ما يرغبون في العودة إلى المنازل والأرض التي فقدوها في عام 1948، بأن ميزان القوى يجعل ذلك الهدف عقيماً. فقرروا في المقابل المطالبة بدولة في الضفة الغربية وغزّة كهدف محدد وممكن. لكن حركة "حماس" لم تقدم بعد رسمياً على مثل هذا التحول على الرغم من أن قادتها يميلون بوضوح إلى قبول إحدى النسخ عن الحل بإقامة دولتين. فكلما تحملت "حماس" مسوؤلية تأمين مصالح سكان غزة والضفة الغربية، فثمة احتمال أكثر بأن تتقبل وجود إسرائيل كتسوية مريرة ولا مفر منها.

فضلاً عن ذلك، التزم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بحد ذاته هذا العام بمبدأ إقامة دولتين ولو بشروط أكثر تقييداً من أن يعتمدها الفلسطينيون، وذلك بالرغم من أنه بنى حياته السياسية عبر معارضة ذلك الحل. اعتمد نتنياهو بالتالي وجهة النظر هذه لأن المجتمع الدولي لم يترك له أي حل آخر بديل.

مع ذلك، أقر الرئيس أوباما بأن الحسابات السياسية لدى كلا الجانبين أعاقت التقدم باتّجاه تطبيق حل إقامة دولتين. لكن إن كان يريد لجهوده أن تؤتي ثمارها، فعلى أوباما وشركائه الدوليين تغيير تحليل التكلفة والمنفعة للإسرائيليين والفلسطينيين وذلك عبر إثارة محفّزات التحرّك وعواقب الحفاظ على الوضع كما هو عليه. لكن طالما أن الوضع الراهن لايزال أكثر أماناً سياسياً من الحل البديل، فما من سبب يدعونا إلى ترقّب أي تقدم.