قد تتفاجأ حين تكتشف الحقائق التي تحتويها رسالة صغيرة مؤلفة من 140 حرفاً فقط دوِّنت على شبكة Twitter الاجتماعية، فقد نجحت أوكتافيا نصر، محررة مخضرمة عملت في شبكة CNN طوال عشرين سنة، في أن تبرهن من خلال رسالة قصيرة كهذه مدى انحسار نظرة واشنطن إلى الشرق الأوسط داخل فقاعة من الأوهام تشلّ تماماً صناعة السياسة العقلانية.

قامت نصر، تماشياً مع سياسة شركتها بشأن تعبير الصحافيين عن آرائهم من خلال المنصات الإعلامية الاجتماعية، بتدوين رسالة على موقع Twitter الأسبوع الماضي تناولت فيها وفاة آية الله العظمى محمد حسين فضل الله. فوصفته بأنه "أحد عمالقة حزب الله"، مؤكدة أنها تحترمه كثيراً. ما كانت هذه الرسالة لتبدو مثيرة للجدل في الشرق الأوسط.

Ad

لربما قصّرت رسالتها هذه (شأنها في ذلك شأن كل رسائل Twitter، نظراً إلى صغرها) عن وصف علاقة فضل الله بحزب الله بشكل دقيق، صحيح أنه أوحى بتأسيس هذه الحركة، إلا أنه ظل مستقلاً عنها. ولطالما اعتُبر معتدلاً في تأثيره، ومع أن حزب الله يُصنَّف في واشنطن كمنظمة إرهابية ليس إلا، يشكِّل في لبنان جزءاً لا يتجزأ من العملية الديمقراطية ويشارك في الحكومة اللبنانية. صحيح أن تأييد فضل الله للعنف ضد إسرائيل يجعل منه متطرفاً في واشنطن، بيد أن سلوكه يُعتبر في العالم العربي طبيعياً جداً، فقد رأى فيه العرب عدواً لعدم التسامح الديني، ومدافعاً عن حقوق المرأة في الإسلام، وربما الثقل الأكثر مصداقية الذي يعادل التأثير الإيراني في العالم الشيعي.

أما السفيرة البريطانية إلى لبنان، فرانسيس غاي، فقد كانت أكثر بلاغة وإسهاباً من نصر في رثائها العلامة فضل الله في مدونتها. فقد كتبت أن "لبنان اليوم لن يكون كما لبنان الأمس"، وأعلنت أن "العالم بحاجة إلى المزيد من الرجال أمثاله، رجال مستعدين للتواصل مع الأديان الأخرى، الإقرار بواقع العالم العصري، ومتأهبين لمواجهة القيود القديمة". أغضبت هذه التعليقات واشنطن ودفعت بوزارة الخارجية البريطانية إلى الاعتذار، مع أن بريطانيا عادت أخيراً إلى التحاور مع "حزب الله"، في خطوة أحزنت الولايات المتحدة.

ولكن ما قد يبدو منطقياً في رأي مَن يتعاطون مع حقائق الشرق الأوسط قد يبدو هرطقة في الولايات المتحدة، حيث تفرض السياسة المحلية ضرورة رؤية المنطقة من منظار التفضيلات الإسرائيلية. لذلك لا عجب أن تطلب مجموعات متشددة موالية لإسرائيل من شبكة CNN ألا تسكت على "سوء سلوك" نصر، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة صنّفت فضل الله إرهابياً وأنه "عبّر عن دعمه القوي للأعمال الإرهابية الموجهة ضد أهداف إسرائيلية". فانصاعت شبكة CNN وطردت نصر بسبب ما دعته "خطأ في التقدير".

يتمنى أبرز داعمي إسرائيل في واشنطن لو أن طرد رئيس وزراء عراقي سهل سهولة التخلص من محررة في CNN، فنوري المالكي لم يعلّق على وفاة فضل الله عبر موقع Twitter، بل سافر إلى لبنان لحضور جنازة رجل كان مرشده الروحي، فقد ساهم فضل الله في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، الذي يشكّل قلب الحكومة. ويُذكر أن الولايات المتحدة سمحت بتأليف هذا الحزب في العراق.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يمزق فيها المالكي فقاعة أوهام واشنطن عن الشرق الأوسط، فقد أثار رئيس الوزراء العراقي هذا غضب كثيرين في الكونغرس الأميركي خلال زيارته عام 2006، حين كانت إسرائيل تضرب لبنان. رفض هذا الزعيم العراقي، الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة، التنديد بحزب الله، وحمّل "العدوان الإسرائيلي" مسؤولية الأزمة، إلا أن المشرعين الأميركيين لم يفهموا أنه ما من زعيم شعبي أو قائد منتخَب ديمقراطياً قد يقبل القيام بالعكس.

لا يشكّل الجهل المتعصب لحقائق الشرق الأوسط عقبة أمام تبوء المناصب في واشنطن. على سبيل المثال، خلال خطاب أدلى به سيناتور نيوجيرسي تشارلز شومر أخيراً في مجمع في العاصمة واشنطن، اشتكى من أن "الشعب الفلسطيني ما زال يرفض الدولة اليهودية وحل إقامة دولتين" وأنه "لا يؤمن بالتوراة ولا بداوود". وأضاف: "بما أن الفلسطينيين في غزة انتخبوا "حماس" (لا شك في أن من الضروري منحهم مساعدات إنسانية والحؤول دون موت الناس من الجوع)، فمن المنطقي تضييق الخناق الاقتصادي حول عنقهم كي يروا الطريق الذي يجب سلوكه".

لا يكشف هذ السيناتور الأميركي الليبرالي عن مدى جهله بالإسلام فحسب، بل يدعو أيضاً إلى خنق الفلسطينيين حتى يختاروا القادة الذين ترضى عنهم إسرائيل، فكل مَن ترفضه إسرائيل، كما رأينا مما حدث مع نصر، لا مكان له في واشنطن، حتى لو أدى ذلك إلى انعزال الولايات المتحدة عن الرأي السائد في الشرق الأوسط.

كان من الحكمة في الماضي أن تؤدي الولايات المتحدة دور الوسيط بين إسرائيل وجيرانها العرب. أما اليوم، فصار ترديد مواقف إسرائيل الخاصة من ضروريات الاستمرار السياسي. وهذا ما أظهره استسلام الرئيس باراك أوباما لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي.

من داخل فقاعة واشنطن تلك يبدو كل مَن ينادي في الشرق الأوسط بمواجهة إسرائيل متشدداً ويجب سحقه، أما مَن يتعاونون ويتقبلون بخنوع تصرفاتها، فيُعتبرون معتدلين ويلزم دعمهم. سمعنا أخيراً أن تركيا بحد ذاتها (بسبب استعدادها للتصدي لإسرائيل ومعارضتها وجهة النظر الأميركية تجاه إيران) انضمت إلى مدار طهران، بغض النظر عن عضويتها في حلف شمال الأطلسي ومحاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتصويتها الأخير لقبول إسرائيل في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.

قبل الغزو العراقي، أمل المحافظون الجدد أن ترغم القوة العسكرية الأميركية العالم العربية على تقبّل إسرائيل وتهميش كل مَن يتحدوها، لكن ما حدث كان خلاف ذلك، ونتيجة لذلك، شهدنا في واشنطن انغماساً إضافياً في فقاعة الإنكار، حيث يمكن تمني اختفاء النفوذ المتنامي لكل مَن تعتبرهم الولايات المتحدة متشددين ويمكن الدوس على كل مَن يلمّحون إلى ذلك النفوذ.

ولكن بإنكارها الواقع قلّصت الولايات المتحدة نفوذها في الشرق الأوسط لأن الكثير من اللاعبين الأساسيين في المنطقة أدركوا أنهم هالكون في حال اعتمدوا على واشنطن لاتخاذ الخيارات العقلانية، فكان بالأحرى رسم مثال يُحتذى به! فلو كان المالكي، مثلاً، يعمل في CNN، لطرد منذ زمن بعيد.

*محلل مقره في نيويورك.