كان موقف قاسم أمين في كتابه «المصريون» دفاعاً عن الإسلام وعن المرأة المسلمة للرد على الكونت داركور الذي رماهما بالانحطاط، أما دعوته إلى السفور فقد نبعت من اهتمامه بالأسلوب والفعل وليس المظهر، ورأى أنه ليس من المهم أن تكون المرأة محجبة، إنما المهم في طريقة مشيتها وتصرفاتها.

Ad

في الخامس والعشرين من أبريل، كنا على موعد مع ذكرى رحيل علم من أعلام الشرق، في مثل هذا اليوم قبل أكثر من مئة عام في عام 1908، قال في رثائه شاعر النيل حافظ إبراهيم:

شغلتك عن دنياك أربعة    والمرء من دنياه في شغل

حق تناصره ومفخرة    تمشي إليها غير منتحل

وحقائق للعلم تنشدها     ما للحكيم بهن من قبل

وفضيلة أعيت سواك فلم    تمدد إليه يدا ولم يصل

إن رأيت رأيا في الحجاب ولم     تعصم، فتلك مراتب الرسل

هذه الأبيات من المراثي التي جاءت بها قريحة شاعر النيل، في قصيدته العصماء التي طويت على 42 بيتا، لخصت فكرا وعملا عكف عليه قاسم أمين، بعد أن عاد، وقد أتم دراسة القانون في جامعة مونبيليبه بفرنسا، بعد أن تلقاها في مدرسة الحقوق والإدارة في مصر، لتختطفه المنون عن عمر لم يجاوز ثلاثا وأربعين عاما، حفلت بجلائل الأعمال التي تضيق بها مئة عام ويزيد، ولهذا كان أول بيت في هذه القصيدة العصماء:

لله درك كنت من رجل    لو أمهلتك غوائل الأجل

صدق شاعرنا فقد شغلته عن دنياه في سنوات عمره القليلة، أعماله الجليلة في القضاء وفي العلم الذي ينشده ويتزود به والفضائل التي دعا إليها، وقضية الحجاب التي جعلته هدفا لحرب لا هوادة فيها ولسهام تريد النيل من إسلامه، ووطنيته والتشكيك فيهما، فتصدى لها كالأسد الكاسر يرد على هذه الحملة الشرسة التي تعرض لها بكتاب إثر كتاب، ومقال إثر مقال، وهو القاضي الذي كان معروفا برقة حاشيته ودماثة خلقه وهدوء أعصابه، ولم يمهله الأجل ليحصد ثمار ما دعا إليه.

قضية الحجاب:

وفي هذه القضية كان له موقفان، أولهما دفاع عن الإسلام وعن المرأة المسلمة المحجبة وعن فضائلها وشمائلها، حين تعرض الإسلام والمرأة المسلمة للحط من قدرهما في كتاب ألفه دوق داركور باللغة الفرنسية طعن به في الإسلام وفي المرأة المسلمة ورماهما بالانحطاط، فكان رده عليه في كتابه "المصريون" باللغة الفرنسية والتي كان يجيدها، حيث اشتغل بالأدب الفرنسي وقرأ وانكب عليه دارسا ومحللا وناقدا، فرفع في كتابه من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، أما الموقف الثاني لقاسم أمين، فكان في كتابه "تحرير المرأة" وهو الدعوة إلى السفور باعتبار هذه الدعوة ليست خروجا على الدين.

وليس في الموقفين تناقض أو رجوع عن آرائه في كتابه "المصريون" كما فسرهما البعض، بل كان لكل موقف منهما ما يبرره، فقد كان موقفه في هذا الكتاب دفاعا عن الإسلام وعن المرأة المسلمة في رده على الكونت داركور الذي رماهما بالانحطاط، فأعلى قاسم من شأن المرأة المسلمة المحجبة، بروح القاضي الذي ينتصر للحق والعدل ولا يقبل الضيم والظلم الذي لحق بالإسلام والمرأة المسلمة المحجبة في هذا الكتاب، ولو كان للقاضي رأي خاص في الحجاب، امتثالا لقوله تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"، وانطلاقا كذلك من إيمان مطلق بالحرية التي رأى المجتمع الفرنسي ينعم بها، طالما كانت هذه الحرية في إطار القانون والقيم الاجتماعية، ولم ير في اختيار المرأة الحجاب ما ينقص من قدرها وكمالها، ولكنه حقها واختيارها، وهو ما يطلق عليه الآن الحق في الخصوصية.

ولهذا لم يفرض قاسم أمين على زوجته الحجاب بل ترك لها حرية الاختيار، وقد اختارت ألا تسفر عن وجهها في حياته وبعد مماته.

أما دعوته إلى السفور فقد كانت تنبع من اهتمامه بالأسلوب والفعل وليس المظهر، كما أشار إلى ذلك في كتاباته المتعددة عن المرأة والذي كان يقول فيها إنه ليس من المهم أن تكون المرأة محجبة، إنما المهم في طريقة مشيتها وتصرفاتها.

فقد كان الحجاب- في عصره- نقابا، رأى فيه ما يعوق المرأة ويمنعها من القيام بدورها المنتظر في المجتمع وأن نقاب المرأة ليس له علاقة بالفضيلة، بل العكس، الممنوع مرغوب، وأن وضع المرأة داخل النقاب، يطلق للرجل حرية التخيل دون حدود.

وللحديث بقية عن دعوة قاسم أمين إن كان في العمر بقية.