إذا أردنا أن نفهم تردد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في الإذعان للأصوات الأميركية المطالبة بإجرائه محادثات مباشرة مع إسرائيل، فعلينا تذكّر مقابلة أُجريت مع عوزي أراد في مطلع هذه السنة.عندما سئل عما إذا كانت دولة فلسطينية ستتشكل خلال عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، شكك مستشار الأمن القومي الإسرائيلي هذا في قدرات الفلسطينيين، وفي احتمال أن تنهي الدولة الفلسطينية الصراع. فذكر: "ولكن من الممكن أن يأتي أحد... ونشهد خلال ثلاث سنوات، كما لو بسحر ساحر، أربعة مؤتمرات أنابوليس، وعمليتي انسحاب، وتوليفة عالمية عجيبة... ومن ثم تتشكّل فجأة حكومة فلسطينية في عام 2015. فتُصنع طوابع وتُقام العروض والمهرجانات. هذا ممكن، صحيح أن هذه البنية ستكون هشة والاتفاق قائماً على أسس غير متينة. إلا أنه يبقى ممكناً". يعجز أوباما عن أن يقدّم لعباس دولة فلسطينية مستقلة تستند إلى حدود عام 1967، لأن نتنياهو يرفض ذلك، فقد أشارت التقارير الأخيرة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي طرح خلال اجتماع عقده أخيراً مع الرئيس المصري حسني مبارك خريطة لدولة فلسطينية بعيدة كل البعد عن اقتراح السلام الذي تقدمت به جامعة الدول العربية. علاوة على ذلك، لا يتعرض نتنياهو لضغوط أميركية تحثه على تقديم المزيد، فيعتقد أن بإمكانه حمل الولايات المتحدة على تنفيذ مشيئته، كما أوضح في عام 2001 لعائلة من المستوطنين الإسرائيليين في شريط مسجّل لا يُنسى ظهر أخيراً. قال نتنياهو في الشريط: "أعرف جيداً ماهية الولايات المتحدة، فهي دولة يمكن تحريكها بسهولة، تحريكها في الاتجاه الصحيح".وأوضح نتنياهو في هذا الشريط أن "الاتجاه الصحيح" هو "وضع حد للسعي وراء حدود عام 1967"، وبما أن أوباما يعجز عن تقديم دولة تنسجم مع شروط سلام جامعة الدول العربية، يأمل جذب عباس إلى "الحدث" الذي يخطط له بمنحه عموداً يرفرف فوقه علم. فسيعطي أوباما عباس حق تعليق العلم الفلسطيني خارج مقر بعثة السلطة الفلسطينية في واشنطن، لكن هذا ليس مجرد عمود عليه علم، فهو يُكسب المبعوثين الفلسطينيين في الولايات المتحدة حصانة دبلوماسية، وهكذا سيتمكن الدبلوماسيون الفلسطينيون قريباً من تجاهل غرامات مخالفات الوقوف في واشنطن العاصمة، فهل يُعقل أن تكون "الطوابع والعروض والمهرجانات"، التي تحدث عنها أراد، وشيكةً هي أيضاً؟حاول عباس وجامعة الدول العربية من البداية تحذير أوباما من أن نتنياهو لن يعقد صفقة سلام حقيقية مع الفلسطينيين ما لم يرغمه الضغط الأميركي على ذلك، فينتمي نتنياهو إلى الطرف الأيمن للطيف السياسي الإسرائيلي، وبنى مسيرته المهنية على مقاومة عملية السلام. كذلك يقوم هدفه المعلن على التلاعب بعملية واشنطن للسلام بغية حماية المكاسب التي حققتها إسرائيل عبر الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية. عندما شعر نتنياهو أنه يتعرض للضغط من أوباما ليلتزم بإقامة دولة فلسطينية، أعلن نتنياهو التزامه هذا، بيد أن والده سارع إلى طمأنة الموالين للحزب، مؤكداً لهم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيحدد شروطاً لتأسيس هذه الدولة ما من زعيم فلسطيني يقبل بها.لا شك أن نجاح نتنياهو في مقاومة ضغوط إدارة أوباما لـ"تجميد" بناء المستوطنات، وإعراب الرئيس الأميركي علناً عن وده تجاه هذا القائد الإسرائيلي في مطلع هذا الشهر عززا مخاوف عباس من أن تطلب الولايات المتحدة منه منح الشرعية لمناسبة أخرى في سلسلة طويلة من "مناسبات السلام".لم يشر أحد إلى أن المحادثات غير المباشرة أحرزت تقدّماً يكفي للانتقال إلى مفاوضات مباشرة، بل على العكس، رفضت إسرائيل مناقشة مسائل الوضع النهائي البالغة الأهمية الواردة على أجندة المبعوث الأميركي الخاص جورج ميتشل، ويبدو اليوم أن البيت الأبيض تبنى الموقف الإسرائيلي الذي يعتبر أن مسائل الوضع النهائي لا يمكن مناقشتها إلا في مفاوضات مباشرة، مما يؤكد على ما يبدو أن نتنياهو كان محقاً: الولايات المتحدة "دولة يمكن تحريكها بسهولة".تُقام القمم البالغة الأهمية عادة بعد التوصل إلى أسس اتفاق واضحة جرى التفاوض عليها طوال أشهر، فهدف المفاوضات التمهيدية تفادي إحراج الأطراف المعنية بسبب إخفاقها في التوصل إلى اتفاق عندما تلتقي وجهاً لوجه.ويدرك نتنياهو جيداً أن ما سيقدّمه لن يلقى القبول بين الفلسطينيين، وأن إدارة أوباما تفتقر إلى القدرة والرغبة السياسيتين للضغط عليه للحصول على تنازلات أخرى، لذلك يسعى القائد الإسرائيلي من خلال مناورته هذه إلى إلقاء الفشل على عاتق الفلسطينيين، ولا شك أن المشاركة في المحادثات المباشرة كانت ستحمل هدفاً حقيقياً في نظر عباس، لو كان يستطيع الوثوق بأن أوباما سيضيّق الخناق على نتنياهو في حال تبيّن أنه لن يلتزم باتفاق سلام ذي مصداقية. غير أن أوباما لم يمنح الفلسطينيين أي سبب يدعوهم إلى الاعتقاد أنه قد يفعل أمراً مماثلاً. كذلك يشير إصرار نتنياهو على المفاوضات المباشرة إلى أنه لا يتوقع التعرض للضغوط.من الممكن أن يخسر حزب أوباما الأكثرية في انتخابات الكونغرس، وقد تمر سنوات قبل أن يصبح الرئيس الأميركي مستعداً للمخاطرة بمعاقبة إسرائيل بتردد كي يدفعها للقبول باتفاق سلام يخدم مصالح ذلك البلد الفضلى. حتى ذلك الحين، يحتاج أوباما إلى تحقيق "تقدّم" وهمي كي يحافظ على كبريائه وكبرياء دولته.لن يعاني أوباما أو نتنياهو عواقب السياسة المحلية السلبية الناتجة عن خوض حدث تافه آخر يُعنى بالسلام في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لا ينطبق على عباس، فموقفه السياسي المهدد بالخطر يتراجع كلما تبيّن أن الاعتماد على الولايات المتحدة لتحقيق العدالة للفلسطينيين ما هو إلا أمل كاذب. وبما أن عباس ما عاد قادراً على الفوز بموافقة حزبه الخاص "فتح" على محادثات مباشرة، اضطر إلى الاعتماد على تفويض من جامعة الدول العربية، وبعد عقدين من المحادثات العقيمة، تتراجع اليوم قدرة شركاء السلام المحتملين في المنطقة على تقديم الدعم السياسي الضروري لعملية سلام تنسجم مع الشروط الإسرائيلية.إذن، لعل السلام الأميركي في الشرق الأوسط يقترب تدريجياً من لحظة الحقيقة.*محلل مقره في نيويورك.
مقالات - Oped
بدل إقامة دولة... نتنياهو يقترح دفع غرامات
28-07-2010