لقد أوصل جورج أورويل بطله «ونستون سميث» في روايته 1984 إلى أن يخاف من نفسه أكثر من سطوة الأخ الكبير، وبالتالي إفراغ الكائن من إنسانيته تماماً، هكذا انتقد هذا الكاتب الراديكالي النظام الشمولي على نحو حاسم. اعتبر جورج أورويل على الدوام سيد النثر الإنكليزي في القرن العشرين بامتياز، ليس عبر رواياته فحسب، بل أيضاً عبر مقالاته اللاذعة والحادة التي كان ينشرها في الصحف والملاحق الأسبوعية في انكلترا وأميركا وفرنسا وإسبانيا، وباستطاعتنا القول إن أورويل رأى أكثر ما ينبغي. كانت تقوده حاستا العبقرية والتجربة، لذلك مُيزَ على أنه صاحب انجاز كبير. في كتابه (أيام بورميه) أبرز على نحو ساطع ذلك التشدق الاستعماري المُمكيج في ما يتعلق بسكان البلد الأصليين، لقد سحب البساط كلياً عن مصداقية الرجل الأوروبي ولم تكن شخصية ونستون سميث سوى تجميع هائل لتلك الفكرة التي أراد أن يعبر عنها ضد ممارسات الأنظمة الشمولية. من خبرته العملية استقى جورج أورويل أجمل أفكاره، بورما أولاً ثم انكلترا وهو يجوب أحياءها الفقيرة ثم تجربته الفرنسية اما تجربته الاسبانية بعد ذهابه للدفاع عن الجمهورية مبكراً فقد كانت وحدها مسألة شائكة ومعقدة اذا عرفنا السياقات التاريخية والتنظيمات اليسارية المختلفة التي شاركت للدفاع عن الجمهورية. في كتابه الهام (الدفاع عن كاتالونيا) رأى بأمّ عينه كيف استحالت الأحزاب الشيوعية مثلاً بدفع من ستالين الى نوع من الخدعة المحبوكة جيداً فانضم الى الفوضويين وكان مقاتلاً هائلاً حتى انه أصيب برصاصة لكنه نجا. ومن يقرأ سيرة حياته التي كتبها برنارد كريك سيكتشف كيف كان هذا الكاتب الكبير وفياً لفكرة الحرية. لقد آمن أوريل بالاشتراكية ودخل في معارك ومطاحنات عنيفة مع أحزاب وتنظيمات وشخصيات فكرية في فترة الحرب العالمية الثانية، معتبراً أن الاتحاد السوفياتي آنذاك لم يكن اشتراكياً، لقد انتقد على نحو صريح اليسار البريطاني والأوروبي في ما يخص هذه المسألة، حتى انه في مقالاته وأعمدته الصحافية التي كتبها عام 1944 هناك واحدة تتحدث عن صديقه الروائي آرثر كويستلر تحدث فيها عن «خطيئة اليساريين كلهم تقريباً منذ عام 1933 وما بعد، لكونهم أرادوا أن يكونوا معادين للفاشية دون أن يكونوا معادين للشمولية» واذا كانت مقالاته الصحافية قد أثارت على الدوام كثيرا من اللغط والجدل داخل بريطانيا وخارجها آنذاك فإن روايتيه «مزرعة الحيوانات» و «1984» قد أثارتا موجة عارمة من التفسيرات المتلاطمة في الأوساط السياسية والفكرية الغربية، امتدت حتى ما بعد مماته. كان قرف أوريل من الأفكار المهادنة والمقوّلبة والتسطيحات العمياء تدفعه الى حالة من الاحباط، الى حد أن وصف نفسه بأنه «متشائم قصير النفس» إلا أن هذا كله لم يمنعه من الوقوف أمام قول الحقيقة بحرية تامة مهما كان الثمن. وفي كتابه (الأسد ووحيد القرن) الذي احتوى على مقالاته السياسية كتب يقول: «بينما أنا أكتب ثمة بشر يطيرون فوق رأسي ويحاولون قتلي». صحيح أن نقده لمظاهر الاستبداد جلب عليه أحياناً النقمة إلا أنه لم يتوقف عن ذلك، فقد كتب يقول: «لاتخاذ قرار سياسي عقلاني، يجب أن تكون للمرء صورة عن المستقبل». ليس هذا فحسب بل انه كتب يسخر من مواطنيه الانكليز بطريقة قد لا تخلو من القسوة. «الانكليز ليسوا مثقفين، انهم يرتعبون من الأفكار المجردة ولديهم قدرة خاصة على العمل دون تفكير ونفاقهم المعروف عالمياً -ازدواجية موقفهم من الامبراطورية مثلاً- مرتبط بذلك».

Ad

لقد جابه أورويل التيارات الفكرية المحافظة، وعانى خصوصاً في بداية مسيرته الابداعية، من التعنت، فرفضت في البداية دور النشر طباعة أعماله. بما في ذلك ت.س. اليوت الذي كان يعمل حينذاك، في دار النشر الشهيرة، «فابراندفابر». ولم تأت شهرته ككاتب ومنظر سياسي الّا متأخرة، ورغم انه انضم الى عضوية حزب العمل المستقل لفترة من الزمن فإنه سرعان ما انسحب منه رغم تأكيده على «يساريته» بسبب ايمانه بأن الكاتب لا يستطيع أن يكون صادقاً إلا إذا تحرر من التنظيمات الحزبية. إن فكرة قول الحقيقة، اصبحت شاغلاً رئيساً في كثير من كتابات أورويل، ولأنه كان كاتباً أخلاقياً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، فإنه كان يشكك، في كتابة التاريخ، وفق رؤى مسطحة وضيقة.