انطلقت شهرة شاعر العامية الكبير بيرم التونسي منذ أولى قصائده «بائع الفجل» التي أحدثت صدى واسعاً في جميع الأوساط وخاصة الشعبية منها، إذ انتقد فيها المجلس البلدي ـ الذي كان جميع موظفيه من الانكليز ـ حيث قال بيرم بأسلوب ساخر ومعلناً عن موهبته الشعرية للمرة الأولى:

Ad

كأن أمي أبلَ الله تربتها

أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي

اخشى الزواج، فإنْ يوم الزواج أتى

يبقى عروس صديقي المجلس البلدي

وربما وهب الرحمن لي ولداً

في بطنها يدعيه المجلس البلدي

يا بائع الفجل بالمليم واحدة

كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟

وقد حلقت بعد ذلك تجربة بيرم التونسي في فضاءات شعرية استطاعت أن تظهر موهبته كواحد من أهم من كتبوا القصيدة الزجلية، حيث اختار الكتابة بلغة الشعب ولهجة رجل الشارع البسيط إلى أن التقى فنان الشعب سيد درويش وكتب له أول قصيدة وطنية:

اليوم يومك يا جنود

متجعليش للروح تمن

يوم المدافع والبارود

مالكيش غيره في الزمن

هيا اظهري عزم الأسود

في وجه أعداء الوطن

عار على الجندي الجمود

إلا إذا لــــفــــــه الكــفــــــــن

وتشتعل في تلك الفترة ثورة 1919 فيجند بيرم أشعاره لمساندة الثورة ويصدر جريدة بعنوان «المسلة» لافتاً إلى ان سبب التسمية أن لفظ «المسلة» يعود إلى الفراعنة حيث كانوا يطلون مسلاتهم باللون الذهبي والفضي لتعكس أشعة الشمس للمصلين داخل المعابد، اضافة إلى أن هذه المسلة ذات أطراف مدببة جارحة ويمكن أن تكون كالمنار تبدد الظلام والجهل من حياة المصريين، ويكون لأطرافها المدببة ـ مثل كلمات بيرم القاسية ـ أقوى أثر على حياتهم وأفكارهم... حيث يقول في إحدى قصائده.

ما تمدغيش للعيال الأكل باسنانك

والنفخ في الأكل، سن، في عرض أيمانك

إخيه عليكي، بقيتي خصلتك سودة

ما تسمعيش الكلام تنشكي في لسانك

ثم يتوالى نشاط بيرم بالتعاون مع سيد درويش فيكتب له «أوبريت» جديدا له طابع سياسي:

أنا المصري كريم العنصرين

بنيت المجد بين الأهرمين

جدودي أنشأوا العلم العجيب

ومجرى النيل في الوادي الخصيب

رحلة الحياة... والمعاناة

ولد محمود بيرم التونسي في حى الأنفوشي بمدينة الإسكندرية في 3 مارس 1893، وكان له أخت واحدة من والده وكان والده يمتلك مع ابناء عمومته دكاناً لبيع الحرير، وكباقي التجار كان يريد تعليم ابنه، حتى أرسله وهو في سن الرابعة إلى كتاب الشيخ جاد الله الذي كان ينهال عليه بالضرب بشكل مستمر بسبب ضعف الطفل بيرم في الحساب، فلم يكن يفرق بين السبعة والثمانية في الكتابة، حتى يئس والده من تعليمه فسلم للأمر الواقع وأخرجه من الكتاب وارسله للعمل في دكان الحرير مع ابناء عمومته.

وبعد فترة يكرر والده المحاولة فيرسله إلى مسجد المرسي أبو العباس، حيث المعهد الديني الملحق به فأخذ بيرم يتابع الطلبة الأكبر منه سناً، وهم يقرأون ويتجولون في أروقة المعهد، وأخذ يقلدهم ويشتري الكتب إلا أنهم كانوا يسخرون منه.

وأصبح بيرم مسؤولا عن أمه بعد وفاة والده الذي رحل ولم يترك لهم شيئاً، ولم يكن بيرم قد تخطى الرابعة عشرة من عمره فاضطر الى العمل كصبي في محل بقالة بعد ما أكد له أبناء عمومته أن والده قد باع لهم دكان الحرير قبل وفاته، إلى أن يأتي يوم يترك فيه بيرم العمل ويذهب لسماع المواويل في المولد، فيطرده صاحب العمل.

لم ييأس بيرم وأخذت شعلة الابداع الشعري تتوهج في أعماقه، فدأب على شراء كتب الأساطير الشعبية مثل «أبوزيد الهلالي»، «ألف ليلة وليلة»، التي كانت تحتوي على ابيات من الشعر فراقت له واستطاع أن يتذوقها وحتى أتم السابعة عشرة من عمره تزوجت أمه ثم ماتت بعدها بوقت قصير.

وعقب وفاة أمه اشترك بيرم مع أحد الصيادين في دكان للبقالة وكان يقرأ قصاصات الورق التي كان يبيع فيها الجبن، وبعد فترة تزوج بيرم وتعرض لضائقة مادية بعد أن أفلس مشروعه بسبب انفاقه الشديد على شراء الكتب حتى أنه باع منزل والدته لهذا الغرض، وتوفيت زوجته بعد سنوات قليلة وتركت له ولدين (محمد ونعيمة)، وحتى يتمكن من رعايتهما تزوج بعد وفاة زوجته بسبعة عشر يوماً فقط.

«البامية الملوكي»

ولما ذاع صيت بيرم التونسي بعد تعاونه مع سيد درويش في أعمال ذات مضمون سياسي مثل اوبريت «أنا المصري» واصل بيرم نشاطه في صحيفته التي أصدر في أحد أعدادها قصيدة بعنوان «البامية الملوكي... والقرع السلطاني» وبسبب هذه القصيدة أمر السلطان بإغلاق الصحيفة مما جعل بيرم يصدر صحيفة أخرى «الخازوق» ليواصل هجومه ضد الأسرة المالكة ليتم طرده إلى تونس في 25 أغسطس 1920، وهو في سن السابعة والعشرين.

ابن الجارية

وفي تونس بدأ بيرم رحلة البحث عن جذوره الأولى، حيث كان أبو جده تونيسياً وبالفعل وصل الى أهله، الذين فوجئ بهم يقولون له أنه «ابن الجارية» التي أهداها السلطان التركي لجدهم، فما كان منه إلا أن تركهم وقد شعر أنه قد نفي الى بلد غريب عنه خاصة بعدما منعه حاكم تونس من مزاولة عمله الصحافي فقرر السفر الى باريس، ومنها إلى ليون وبدأت رحلة الغربة تعرف طريقها إلى بيرم، الذي اضطر الى العمل في مصانع الصلب والغازات الخانقة ضماناً لقوت يومه، الأمر الذي دفعه الى عقد مقارنات اجتماعية بشكل أدبي بين المجتمع في مصر والمجتمع الفرنسي.

وفي تلك الاثناء يفقد بيرم عمله بسبب المرض حتى انه قال عن هذه الفترة في ما بعد: «كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين»، ولم تطل هذه الفترة حتى استطاع العودة الى مصر ليفاجأ أن زوجته حصلت على الطلاق في غيابه وانجبت له طفلة أخرى... ويواصل بيرم في مصر انتاجه وينشره بدون توقيع حتى انكشف أمره، فتم ترحيله ثانية الى ميناء مرسيليا بفرنسا فيلجأ الى العمل في مصنع للكيماويات، ثم مصنع للحرير إلى أن استطاع العودة الى مصر بعد زواج ابنته نعيمة وظل يتنقل بين بيوت اصدقائه محاولاً الاختباء لديهم إلى أن صدر عنه عفو ملكي فعمل بيرم مديراً للدعاية بشركة سكندرية لفترة محدودة تفرغ بعدها للعمل الصحافي وأصدر صحيفة فكاهية ثم تركها ليبدأ مرحلة جديدة في العمل بمجال السينما والمسرح والإذاعة، مواصلاً نقده للأوضاع الاجتماعية بشكل موضوعي:

ياهل المغنى دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله

حافظين عشرة اتناشر كلمة، نقل من الجورنال

شوق، وحنين، وأمل، وأماني، وصد وتيه ودلال

واللي تعاد ينزاد ياخوانا، وليل ونهار هواه

بيرم وكوكب الشرق

تعرف بيرم التونسي على سيدة الغناء العربي أم كلثوم واستطاع أن يكتب لها قصائد من أروع ما غنت كوكب الشرق ومنها «أنا وانت»، «الآهات»، «هوه صحيح الهوى غلاب»، «كل الأحبة» ولم يقتصر ما كتبه بيرم لأم كلثوم على الأغاني العاطفية بل امتد ابداعه إلى الاغنية الدينية مثل «القلب يعشق كل جميل» وكذلك القصائد الوطنية مثل «صوت السلام»، وكانت قصيدة «هوه صحيح الهوى غلاب» هي آخر اغنية كتبها بيرم لأم كلثوم التي اذاعت خبر وفاته على الهواء مباشرة في 5 يناير عام 1961 عن عمر يناهز 68 عاماً بعد معاناته مرض الربو.

لمحات

• قضى حياته بين دكاكين الحرير ومصانع الصلب.

• بيرم التونسي... الشاعر المنفي الذي انطلقت شهرته مع «بائع الفجل».

• فشلت محاولات والده في تعليمه وتذوق الشعر من «ألف ليلة».

• فقد عمله «كصبي بقال» بسبب سماع المواويل وباع منزل أمه لشراء الكتب.

• «البامية الملوكي» سبب نفيه الى تونس وهناك فوجئ أنه «ابن الجارية»!

• نجحت أغانيه الوطنية مع فنان الشعب سيد درويش وأذاعت أم كلثوم نبأ وفاته.