"آلن ديفيد سوكال" الذي يشير إليه عنوان المقال هو بروفيسور أميركي متخصص في الرياضيات، وكان إنساناً مثقفاً يحب القراءة، ولكنه لم يكن يحب الكتابات الشديدة التعقيد التي تزخر بها بعض المجلات العلمية والثقافية. وفي عام 1996 فكر البروفيسور "سوكال" في حيلة لبيان عدم جدوى هذا النوع من المقالات، فقام بكتابة مقالة عن موضوع الوجود والإدراك، وقد بدت المقالة التي كتبها وكأنها مقالة ذات قيمة عالية، ولكن الحقيقة تظهر أن المقالة لم تكن تحمل أي معنى، إنما كانت مجموعة من المصطلحات الغريبة غير المترابطة.

Ad

 بعد إتمامه كتابة المقالة أرسلها "سوكال" إلى إحدى المجلات المتخصصة التابعة لجامعة ديوك الأميركية وهي من الجامعات المعروفة عالميا، وكانت المفاجأة أن المجلة نشرت المقالة في أحد أعدادها، فما كان من "سوكال" إلا أن كتب مقالة في إحدى الصحف يعترف فيها بأن مقالته التي نشرتها المجلة العلمية لم تكن إلا «خرابيط». أثار هذا الاعتراف من قبل البروفيسور "سوكال" ضجة كبيرة في الأوساط العلمية، وأجبر المجلات العلمية على مراجعة إجراءات التحكيم ونوعية المقالات التي تنشرها.

إذا كانت المجلات الأجنبية قد أخذت العبرة من قصة "سوكال"، فإن المجلات الثقافية العربية مازالت تعيش عقدة المقالات المعقدة المطولة، وكثير منها ليس سوى حشو من الكلام، أو كلام لا معنى له أو صياغة للفكرة بعبارات معقدة عسيرة على الفهم، وهو ما يذكرنا بقصة الشاعر أبي تمام حين دخل على الخليفة المتوكل فأنشده قصيدة مدحه فيها وكان من بينها:

والحمد بُردُ جَمالٍ اختالت به             غُرَرُ الفعال وليس بُردَ لباسِ

فرعٌ نما من هاشم في تُربةٍ                 كان الكفيء لها من الأغراس

كان فيلسوف العرب الكندي جالساً، فقال لأبي تمام «لمَ لا تقول ما يفهم؟»، فرد عليه أبو تمام «ولمَ لا تفهم ما يقال؟» لا أعتقد أن الكندي لم يفهم ما قاله أبو تمام، ولكن ربما أراد أن يشير إلى صعوبة وتعقيد الكلمات الواردة في قصيدة أبي تمام.

أعتقد أن حب التعقيد متأصل في الكتابات العربية باعتباره رمزا للعمق، وهذا موجود لدى العامة أيضاً، فتجد من يقول: هذا الكتاب عميق جداً، وعندما تسأله وكيف عرفت أنه عميق؟ يجيبك لأنني لم أفهم منه شيئاً. هذا التعقيد هو على النقيض مما ذكره عن الفصاحة، حيث اعتبروا أن الفصاحة هي وضوح معنى الكلام وخلوه من العيوب التي تجعله ثقيلاً أو مبهماً غير مفهوم المعنى.

في مقابل التعقيد المبالغ فيه في المجلات الثقافية العربية تجد العكس في أغلبية الصحف العربية بشكل عام والمحلية بشكل خاص، حيث تجد أن قسما كبيرا من المقالات التي تنشر في الصحف أقرب إلى «كلام الدواوين» منه إلى مقالات يفترض بها أن تصنع رأياً عاماً. أعتقد أن الكندي لو كان حاضراً هذه الأيام وقرأ بعض ما يكتب في صحفنا ومجلاتنا لصعد إلى أعلى جبل وألقى بنفسه على الفور.