يشبه ما تشهده طهران منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع ما شهده ميدان «تيانانمين» في الصين قبل عشرين عاماً، وقتها قمعت التظاهرات، ولكن النخبة السياسية أعادت تموضعها وغيَّرت تحالفاتها، ولم تعد إلى الصورة والنمط التي كانت عليهما قبل التظاهرات، بعضها صعد والبعض الآخر هبط بفعل هذه الأحداث. وينطبق ذلك على إيران ونخبتها في حال توقفت التظاهرات الآن، لأن انقشاع الغبار عن الشارع سيخلِّف مشهداً نخبوياً مختلفاً. تقول التجربة التاريخية لأعمال الاعتراض إن هناك شروطاً يلزم وجودها كي تتحول مظاهر الاعتراض إلى تغيير في شكل الحكم، حيث تبدأ الثورات بأن تقوم فئة اجتماعية ما برفع صوتها للاحتجاج، وتنزل إلى الشارع في المدن الكبرى والعاصمة. في المرحلة التالية تنضم إلى الاحتجاج شرائح اجتماعية أخرى، بحيث تتسع الاحتجاجات وتتمدد إلى مدن أخرى ثم تصبح أكثر عنفاً. وفي المرحلة الثالثة تنتشر المقاومة ضد النظام في المدن المختلفة، فيضطر الأخير إلى نشر قواته وأذرعه الأمنية لقمع التظاهرات. وتتمثل المرحلة الأخيرة في تأثر القوات الأمنية بالمتظاهرين، بحيث تمتنع عن إطاعة أوامر النظام، فيتمكن المتظاهرون من الشارع ويغيِّرون من شكل السلطة. هذا السيناريو حدث بالضبط في إيران عام 1979 عند سقوط الشاه السابق.

Ad

وعلى العكس من ذلك تبقى الاحتجاجات في شكلها البسيط ومراحلها الأولية ولا تتطور إلى أكثر من ذلك إذا لم تنضم شرائح شعبية واجتماعية أخرى إلى مظاهر الاعتراض، ساعتها تنجح الأذرع الأمنية في قمع المتظاهرين بالقوة القهرية. وهذا ما حدث بالضبط في ميدان «تيانانمين» في الصين عام 1989، إذ إن انتفاضة الطلاب لم تشارك فيها فئات اجتماعية أخرى وأصبح الطلاب معزولين اجتماعياً، فتدخلت الأذرع الأمنية وقمعت التظاهرات بسهولة نسبياً.

الآن وبعد مرور أكثر من أسبوعين على بدء التظاهرات في طهران، يبدو أن مظاهر الاحتجاج من شرائح الشباب وذلك القسم من سكان طهران لا ترقى إلى مستوى الثورة، بالنظر إلى تجربة إيران التاريخية.

إذن فإن إيران تقف على أعتاب مرحلة إعادة اصطفاف في نخبتها السياسية؛ فالتظاهرات والاعتراضات ستقرر فريقاً فائزاً وآخر خاسراً، كما أنها ستفرز رابحين وخاسرين على الجانبين، وفي كل فريق ستتدرج درجة الخسارة ومستوى الأرباح. ستتحكم القاعدة الطردية التالية في رئاسة نجاد القادمة: كلما استمرت التظاهرات وكلما ازداد أعداد المشاركين فيها وانتشرت في أكثر من مدينة، كانت الخسارة المعنوية لرئاسة الجمهورية أكبر. وفي النهاية لا يبدو من تركيبة الدولة الإيرانية وتحالفات نخبتها أن ما يجري في شوارع طهران سيحسم النتيجة وحده، بل أيضاً ما يجري في الدوائر العليا للدولة الإيرانية وبالتحديد مساعي رفسنجاني لتكوين اصطفاف مقابل تيار نجاد.

خلقت التظاهرات من المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي شخصية صنعها السياق التاريخي، فهو وبحكم عمره المجرد -67 عاماً- تفصله فجوة عمرية عن المتظاهرين من الشباب، كما أن مواقفه قبل الترشح للانتخابات وابتعاده لعقدين عن السياسة عوامل جعلته فاقداً للكاريزما والتأثير إلى حد كبير. ولكن موسوي أثبت وبمرور الوقت أنه ينمو مع السياق التاريخي، فلم يستسلم للنتيجة أو لقمع التظاهرات كما كان متوقعاً، بل استمر معارضاً في الشارع ومستخدماً مصطلحات ذات معانٍ عميقة في وجدان الإيرانيين مثل «أنا توضأت استعداداً للشهادة». ومع ذلك يبدو أن الكتلة المستمرة بالتظاهر في الشارع تتشكل من مجموعات متفرقة يربطها خيط واحد هو معارضة سياسات الرئيس الإيراني سواء على خلفية اقتصادية أو المطالبة بمزيد من الحريات المدنية، أو راغبة في الانفتاح على الخارج أو حتى معارضة لكل النظام الإيراني وليس الرئيس نجاد حصراً. والملاحظ على هذه المجموعات كلها أنها ربما تكون أكثر راديكالية من موسوي نفسه ولا ترتبط بنسق من المصالح مع نظام جمهورية إيران الإسلامية مثل موسوي، وبالتالي خطواتها قد لا تكون محسوبة كثيراً مثل خطواته هو. يبدو أن إيران تتجه إلى إعادة اصطفاف النخبة السياسية المعارضة لنجاد حول شخصيتين هما: هاشمي رفسنجاني محرك الأحداث الحقيقي في النخبة، ومير حسين موسوي باعتباره المرشح الإصلاحي ومحرك المتظاهرين في الشارع حتى الآن، وبحيث سيكون نجاد في ولايته الثانية أضعف كثيراً مما كان عليه قبل الانتخابات. في النهاية تبدو إجابة السؤال كالتالي: من ينعِ على إيران «دكتاتوريتها» فعليه أن ينظر في المرآة أولاً، أما من يتهم المتظاهرين بـ»العمالة للخارج» فإنه يستسهل إعفاء نفسه من مشقة التحليل بعد أن يصادر حق الناس في الفهم والمعرفة!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة