دخل مصطلح المجتمع المدني ومشكلاته معه إلى العراق، ولعل إنشاء الكم الهائل من المنظمات بعد احتلال العراق جعل الارتياب في الكثير من الأحيان سبباً «مبرراً»، لاسيما أن المصطلح والتحرك حملا إشكاليات بعضها نظرية وأخرى عملية، ويعود بعضها إلى نقص المهارات وشحة المختصين وضعف نظام الحصول على المعلومات والآليات المعتمدة، فضلاً عن استخدام بعض الجهات والجماعات السياسية والطائفية لمؤسسات المجتمع المدني على نحو يتعارض مع جوهرها ومحتواها من حيث التمتع بالاستقلالية وعدم الانخراط في الصراع الآيديولوجي والسياسي، ووضع مسافة واضحة ومحددة بين السلطة والمعارضة، لاسيما قوات الاحتلال، والانتماء الطوعي-الاختياري لأعضائها، والطابع غير الوراثي وغير الربحي أو الانتفاعي لوجودها، فضلاً عن ذلك فإن تشكيلاتها وهيئاتها وأنظمتها الأساسية ينبغي أن تكون حداثية وغير تقليدية طائفية أو عشائرية أو غير ذلك.

Ad

لكن ذلك شيء ووجود واقع جديد تم التحرك في إطاره لتأسيس منظمات للمجتمع المدني شيء آخر، خصوصاً بعدم وجود ضوابط أو معايير أو حتى قوانين ناظمة، باستثناء بعض القرارات، التي صدرت عن «سلطة الائتلاف» والتشكيلات التي أقامتها، ولعل الرأي العام انشق إلى عدة اتجاهات في تقييمها منها:

الأول: يرى في مؤسسات المجتمع المدني مجرد بدعة وهو وسيلة من وسائل الغرب لاختراق المجتمع العراقي وإبعاده عن مهماته الأساسية، لاسيما في مقاومة الاحتلال، وقد ازداد هذا الفريق يقينية بعد الأموال التي وزعها بول بريمر على بعض المنظمات، والتي بلغت خلال 11 شهراً أكثر من 780 مليون دولار، دون أن تفعل هذه شيئاً ودون أن يعرف أحد لمن صُرفت وكيف استخدمت وما هي المشاريع التي أنجزت!؟

ويقابل هذا الفريق جماعة أخرى ترى في المجتمع المدني وسيلة من وسائل التأثير الخارجي لإشغال المجتمع العراقي بمهمات ثانوية وليست أساسية، مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وموضوع الأقليات وغيرها. وهذه ليست سوى مسائل فرعية في حين أن المسألة الأساسية، هي مسألة الحكم وهي الجوهر، وهي التي ينبغي التركيز عليها وليس الانشغال بمؤسسات إصلاحية لا تقدّم ولا تؤخر كثيراً.

الاتجاه الثاني: وهو الذي حاول أن يركب سفينة المجتمع المدني ويقودها لكي يستغلّه سياسياً أو مذهبياً أو إثنياً ويجعله واجهة لأطروحاته، ولعل هذا يذكّر بفترة الحرب الباردة عندما كان ما يسمى بالمنظمات الديمقراطية واجهة للأحزاب الشيوعية واليسارية، مثل اتحادات الشبيبة والطلبة والمرأة وأنصار السلام وغيرها، كما أن النقابات والاتحادات والجمعيات كانت تخضع لمحاولات الهيمنة عليها ودفعها بالاتجاه الذي تريده هذه الأحزاب السياسية، وحذت بعض الأحزاب القومية في السلطة وخارجها حذو الأحزاب والتيارات الماركسية في الاستحواذ على المجتمع المدني، وفي بعض الأحيان تمت تقاسمات بين القوى الحاكمة وغير الحاكمة، بخصوص المجتمع المدني، كنقابات المحامين والمعلمين والصحافيين والمهندسين واتحاد الأدباء وغيرها، بمبررات الجبهة الوطنية أو التعاون بين القوى والأحزاب السياسية.

الاتجاه الثالث: وجد في تأسيس منظمات للمجتمع المدني فرصة لمزاولة العمل السياسي من خلالها، طالما انغلقت الآفاق وانسدّت الطرق بوجه اللاعبين غير التقليديين الذين انضووا تحت لواء الطوائف والإثنيات والعشائر والجهويات وغيرها، ولعل البعض الآخر وجدها فرصة للتكسّب والارتزاق المادي، وقد انتفخت جيوب البعض من خلال موارد غير معروفة المصادر ومن دون مساءلات سواءً منظمات أو مراكز أبحاث ودراسات، ستراتيجية وغير استراتيجية، بحيث أصبحت مجالاً للتندر وللطعن في المجتمع المدني واستوى فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والغث والسمين أحياناً، لاسيما في ظل غياب الرقابة والشفافية والمساءلة. أما الاتجاه الرابع فمازال جنينياً ومحدوداً ومحصوراً على بعض الشخصيات وعدد محدود من المنظمات، التي حملت رغبات صميمية للرقابة والرصد والمشاركة، بهدف تمكين المجتمع المدني ومؤسساته لكي تتحول إلى قوة اقتراح واشتراك، بوجه تغوّل الحكومات والجهات المتسيّدة باسم الطائفة أو الدين أو القومية، ولكن هذا الاتجاه مازال ضعيفاً وقاصراً، فضلاً عن شحة موارده أو انعدامها أحياناً، خصوصاً أن جهات التمويل بما فيها الرصينة تبحث في الكثير من الأحيان عن شركاء سهلين، وفقاً لبعض الأجندات التي لا يرتضيها أصحاب هذا الاتجاه.

ولعل بعض الجهات الدولية تساوقت رغباتها مع استعداد بعض الجهات المحلية في إلحاق ضرر بجوهر رسالة المجتمع المدني، وقد برعت هذه الجهات في عقد الندوات الكبيرة وورش العمل الضخمة وأرسلت الوفود والممثلين ونظمت زيارات وأجرت اتصالات وتواصلات تحت باب التأهيل والتدريب والتربية على ثقافة المجتمع المدني، بزعم أن العراق لم يعرف المجتمع المدني من قبل وأن هذا أمر لا سابق عهد له فيه. وإذا كان المجتمع المدني العراقي بحاجة جدية وماسة إلى ذلك، فإن الكثير من المنظمات لم تكن سوى تجمعات عائلية أو مذهبية أو فئوية أو واجهات حزبية أو غيرها، بمعنى عدم انطباق مفهوم المجتمع المدني عليها.

وقد يتفاجأ البعض مثلما حصل في ندوة انعقدت بعد الاحتلال في أثينا وحضرها إعلاميون ومثقفون وأخرى في عمان لناشطين وخبراء عن المجتمع المدني عندما علموا أن المجتمع المدني العراقي كان ظاهرة تاريخية قديمة، لكنه تبلور بمفهومه الحديث والمعـاصر كإرهاص جنيني منـذ تأسيس الدولة العراقية العام 1921. وكانت البدايات قد اتخذت شكل إنشاء وتأليف جمعيات وروابط ومؤسسات دينية وثقافية وتعليمية واجتماعية ورياضية أهلية وغيرها، ثم تشكلّت النقابات والاتحادات المهنية والجمعيات والمؤسسات غير الحكومية!

وإذا كانت العشرينيات من القرن الماضي، قد شهدت حوارات ساخنة وجدلاً مثيراً حول قضايا الاستقلال وقضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، مثل السفور والحجاب والموقف من حقوق المرأة والتحرر والحداثة، فإن تلك الفترة الغنيّة مهدّت لنقاشات أوسع وحوارات أشمل وآراء أعمق، تبلورت فيما بعد باتجاهات فكرية وسياسية وثقافية داخل المجتمع العراقي، لعبت فيه بعض مؤسسات المجتمع المدني دوراً إيجابياً رغم بداية عهدها وقلّة تجاربها. يمكن القول إن بدايات انتعاش المجتمع المدني في العراق كانت في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات حتى الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي العام 1936، حيث أقيمت «جمعية أصحاب الصنايع»، التي تزعّمها النقابي العمالي المعروف محمد صالح القزاز (وكان ميكانيكياً)، لكن هذه النقابة تم حلّها عام 1931 بعد أن قادت إضراباً عمالياً دام 14 يوماً، ثم أسس القزاز «جمعية عمال الميكانيك» عام 1932 و«نقابة اتحاد عمال العراق». وحسبما يذكره حنّا بطاطو فقد تأسست نقابات ومنظمات: لعمال الصحف والمطابع والسكك الحديدية، والحرفيين، وتجار السمن والفواكه والخضر وسوّاق السيارات ومهندسي الميكانيك، والحلاّقين والخيّاطين، وأصحاب المقاهي وجمعية تشجيع المنتجات الوطنية، إضافة إلى 3 فرق مسرحية وناد للموسيقى وجمعيات مكافحة الأمية وجمعيات خيرية إسلامية ويهودية ومسيحية إضافة إلى تأسيس جميعة للمحامين عام 1930 وجمعية للأطباء 1934.

وإذا كان الموقف من حقوق المرأة قد شقّ النخبة الفكرية والثقافية، فإن القضايا الشعبية والعدالة الاجتماعية والموقف من الاستعمار، قد شكل همّاً كبيراً لجمهرة واسعة من المثقفين. وقد ساهم تأسيس النقابات العمالية والاتحادات المهنية فيما بعد في قطاعات المحامين والمعلمين والأدباء والصحافيين والفنانين المسرحيين والتشكيليين والمهندسين والاقتصاديين والأطباء، والجمعيات الفلاحية في تعميق وجهة المجتمع المدني في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.

بعد ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958 تأسست قانونياً و«شرعياً» بعض مؤسسات المجتمع المدني، مستفيدة من أجواء الحرية، التي انتشرت في السنة الأولى من عمر الثورة، فإضافة إلى النقابات والاتحادات المهنية، تأسست أيضاً جمعيات خيرية وجمعيات إسكان وجمعيات تموين ونواد رياضية ومنظمات للمثقفين والأدباء والكتاب والخريجين وغيرها. ورغم الصراع والتنافس السياسي الحاد في الاستحواذ على هذه المنظمات، وبخاصة هيئاتها الإدارية وتدخلات الدولة، فإنها ضمنت حدّاً لابأس به من الحرية، وفازت هيئات إدارية ولجان تنفيذية بالضد من إرادة الحكومة.

ولكن منذ أواخر الستينيات اتجهت السلطات الحاكمة لوضع اليد على هذه المنظمات لقضمها بالتدريج تمهيداً لابتلاعها بالكامل أو «تأميمها»، واتّخذ «الاحتواء» أشكالاً مختلفة من حل مجالس الإدارة، إلى التقاسم السياسي وتوزيع المناصب بين قوى حكومية وقوى أخرى تدور في فلكها أو متحالفة معها، ليتّم تدريجياً فرض الهيمنة الكاملة على هذه المؤسسات وجعلها تابعةً للحكومة، بل أحد أعمدتها في الترويج لسياستها إيديولوجياً.

هكذا «غاب» المجتمع تدريجياً وتعّرض نموّه عنوةً للإجهاض والانقطاع والتشوّيه، بحيث أكلت الدولة المجتمع المدني، وتغّولت السلطة على الدولة وتحكّم بالسلطة أقلّية بصلاحيات تكاد تكون مطلقة وغير محددة تكبر كل يوم مثل كرة الثلج، ولعل تجربة ما بعد الاحتلال بحاجة إلى وقفة نقدية جدية فضلاً عن مساءلات ضرورية خصوصاً تعرضها لمحاولات التشويه والتزييف والخداع، وذلك بفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء