تمتع روبرت لانغ، خبير متخصص في فيزياء الليزر، بحياة مهنية ناجحة. فقد عمل أولاً مع الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا) في مختبر الدفع النفاث، مجرياً أبحاثاً على أشعة الليزر شبه الموصلة المستخدمة في وسائل الاتصال، التي تعتمد على الألياف البصرية. ثم انتقل إلى شركة تكنولوجيا خاصة في وادي السليكون، حيث تبوأ مناصب عدة، منها كبير العلماء ونائب رئيس قسم الأبحاث والتطوير. لكنه في العام 2001 تخلّى عن ذلك كله ليمتهن فن طي الورق.

يحترف لانغ (49 سنة) اليوم الأوريغامي. هل هي طيور الكركي الورقية؟ كلا، هذه سهلة جداً. ما رأيكم بأفعى مجلجلة لها ألف وخمسمئة حرشف، أو نسخة بالحجم الطبيعي للفكاهي درو كاري أو علم أميركي ظهر في إحدى صور مجلة {نيويورك تايمز}؟ يسعى لانغ الى تخطّي حدود ما يستطيع الإنسان إنجازه بطي الورق. إلا أنه يُعتبر أيضاً أحد رواد حقل ناشئ من الحقول الدراسية: الأوريغامي القائم على المعلوماتية النظرية (computational origami).

Ad

يُعرِّف لانغ هذا الحقل من خلال السؤال: {كيف يمكن استخدام القواعد والعمليات الحسابية لابتكار تحفة فنية؟}. ويضيف موضحاً: {في الأوريغامي، كما في العلوم، تتوصل إلى أنماط وعلاقات كانت قائمة قبل أن تكتشفها. يحمل هذا العلم في طياته فرح الاكتشاف، فضلاً عن أنني أول باحث يخوض هذا المجال}.

يلجأ لانغ وعدد من العلماء الآخرين إلى هذا الفن الياباني لحل مسائل علمية. مثلاً، تعاون لانغ قبل نحو 10 سنوات مع مختبر لورنس ليفرمور الوطني لتصميم عدسات مقراب قادرة على العمل في الفضاء. بدت مبادئ الأوريغامي مناسبة لهذه المهمة، إذ لزم أن تكون العدسات كبيرة (تضاهي بحجمها حجم ملعب كرة قدم) في الفضاء، في حين ينبغي أن تكون صغيرة كفاية ليتمكن صاروخ من إطلاقها في مدارها. فأظهر نموذج أعده لانغ أن من الممكن استخدام لوائح زجاجية مزودة بمفصلات لتقليص حجم العدسات إلى قطع لا يزيد طولها أو عرضها على أربعة أمتار من دون الإساءة إلى أدائها البصري. إلا أن العدسات لم تُرسل أبداً إلى الفضاء بسبب نقص التمويل.

فضلاً عن ذلك، عمل لانغ على نماذج إلكترونية لطي أكياس الهواء في السيارات. تُعتبر محاكاة انفتاح الكيس بالغة الأهمية، لأنها تُعفي المصنّعين من تحطيم الكثير من السيارات في محاولة تحديد طريقة الانفتاح الأكثر أماناً. ولا شك في أن هذا مكلف جداً.

استخدم باحثو جامعة أكسفورد تقنيات الأوريغامي لتصميم دعامات صغيرة يستطيع الأطباء تمريرها داخل الأوعية الدموية. وعند بلوغها الموضع المحدد، يمكن فتحها لتصبح بالحجم المناسب وتحول دون انسداد شريان أو وريد ما. وفي هذا الصدد يقول لانغ: {ندرك أحياناً أن ما نقوم به للمتعة والتسلية له تطبيقات عملية. فقد ينقذ الأوريغامي حياة عدد من الناس}.

لا يستطيع المؤرخون الفنيون تحديد الفترة التي ظهر فيها الأوريغامي. غير أن تصاميم تقليدية، مثل طيور الكركي والمراكب، كانت شائعة الاستعمال في القرن الثامن عشر. لم تطرأ تبدلات تُذكر على هذا الفن حتى منتصف القرن العشرين، حين قاد أكيرا يوشيزاوا نهضة في فن طي الورق.

طوّر يوشيزاوا، الذي توفي عام 2005، لغة أسهم وخطوط تُعلّم الناس صنع نماذج مختلفة. لم تشمل إرشادات يوشيزاوا أي كلمات، لذلك استطاع الجميع فهمها.

في تسعينيات القرن الماضي، تحول فن الأوريغامي إلى ما يدعوه ممارسو هذا الفن {حروب الحشرات}. فبعدما أدرك هؤلاء الفنانون أن بإمكانهم صنع حشرات، دارت بينهم منافسة قوية. مثلاً، ابتكر أحدهم خنفساً بست قوائم. فحاول الآخر التفوق عليه بتزويد خنفسه بثماني قوائم ومجسّين، وهكذا دواليك. يخبر لانغ أن حروب الحشرات {لم تنتهِ}. ففي السنوات الأخيرة، صنع جندباً أميركياً وحشرتَي سرعوف (فرس النبي) تتزاوجان.

ينقسم الأوريغامي إلى أنواع متعددة، وهو لا يتبع {قواعد} محددة. إلا أن تحف لانغ تتألف عادة من صفحة من دون أي قطع أو لصق.

في العام 2003، نشر لانغ {أسرار تصاميم الأوريغامي: أساليب حسابية لفن قديم}. فتحوّل هذا الكتاب إلى دستور لمبتكري قطع الأوريغامي المعقدة. يعتبره لانغ تحفته الفنية الأعظم (ألّف أيضاً سبعة كتب عن مبادئ الطي). وقد أضاف أخيراً إلى إبداعاته تحفته الفنية 517، رياضي يقف على لوح ركمجة يُصنع من ورقة دولار. ابتكر لانغ هذا التصميم لحملة إعلانية في صحيفة {واشنطن بوست}. صنع لانغ أول نموذج أوريغامي وهو في سن العاشرة، وكان عبارة عن سفينة شراعية استوحاها من المراكب التقليدية.

قد تبدو عائدات العمل فيزيائياً في وادي السليكون أكبر بكثير. إلا أن لانغ لا يواجه المشاكل في تأمين رزقه. فيمضي جزءاً كبيراً من وقته في إلقاء المحاضرات، فضلاً عن مردود كتبه، اضطلاعه بالكثير من المهام العلمية، ومشاركته في المعارض الفنية والمشاريع الإعلانية التجارية، مثل إعداد قطع فنية ل{ماكدونالدز} و{ميتسوبيشي} و{تويوتا}.

لكن لانغ ليس خبير الرياضيات والعلوم الوحيد الذي استحوذ عليه فن طي الورق. يخبر توم هال، بروفسور متخصص في الرياضيات في كلية ويسترن نيو إنغلاند في سبرينغفيلد بماساشوستس في أميركا: {أتذكر أنني فككت وأنا في العاشرة من عمري طائر كركي صُنع بطريقة الأوريغامي. رحت أتأمل أنماط طيه وأردد بصوت خافت: {يحتوي الكثير من الخطوط والنقاط الهندسية}. إلا أنني لم أفهم آنذاك أهميتها لأنني كنت صغير السن}.

أما اليوم، فيستخدم هال الأوريغامي في تعليم الطلاب، مبتكراً طرقاً لربط هذا الفن بمفاهيم حسابية ونظريات رقمية ومبادئ الهندسة وعلم الجبر. يعتبر هال هذا الفن طريقة سريعة لإثارة اهتمام طلابه ومساعدتهم في فهم مبادئ مبهمة بأسلوب بصري. وفي العام 2006، نشر هال Project Origami، كتاب مليء بنشاطات يستطيع المدرّسون اعتمادها في صفوف الرياضيات.

يوضح هال: {تخيف الرياضيات الأولاد، لا بل العالم بأسره. ولكن مع الأوريغامي تختفي هذه الرهبة لأنهم يطوون الورق فحسب. وبذلك يشكّل الأوريغامي وسيلة مميزة لكسر الحواجز}.

يلتفت كبار ممارسي فن الأوريغامي إلى الحساب لإعداد نماذج أكبر وأفضل. إلا أن البروفسور إريك دماين من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا لجأ إليه بحثاً عن مشاكل هندسية أصعب ليحلّها. ففي العام 1996، كان دماين يعد دكتوراه في علم الكمبيوتر في جامعة واترلو في أونتاريو (كان آنذاك في الخامسة عشرة من عمره) حين وقع على أحد أعمال لانغ صدفة. ففكّر: {يبدو ذلك مثيراً للاهتمام. ربما نستطيع ابتكار أمر جديد}.

يعمل لانغ ودماين راهناً على تقديم برهان حسابي على {أسلوب الشجرة} في تصاميم الأوريغامي. (بات تقريرهما طويلاً جداً، حتى أنهما يفكران في احتمال تحويله إلى كتاب). يقوم {أسلوب الشجرة} على فكرة أن من الممكن اعتبار نماذج الأوريغامي كلها شخصيات يكون رأسها دائرة وسائر أعضائها خطوطاً stick figures. مثلاً، يشكّل جسم الخنفس الجذع وكل قائمة غصناً. ينفي هذا الدليل إمكان صنع تحف أوريغامي من دون اللجوء إلى هذا الأسلوب. أصدر لانغ خمس نسخ من TreeMaker، برنامج إلكتروني يتيح لفناني الأوريغامي رسم stick figures وترك الكمبيوتر يضع تصميماً للطيات يمكنهم اتباعه.

علاوة على ذلك، يبحث دماين عن تطبيقات الأوريغامي في علم الأحياء الدقيقة. فهو يُرجح أن المبادئ التي تحكم الأوريغامي تنظم أيضاً طريقة طي جزيئات البروتينات في جسمنا، عملية بالغة الأهمية يرتبط اختلالها بأمراض مثل ألزهايمر وباركنسون. يذكر دماين: {قد تكون غاية هذا الفن الأساسية توقُّع ما تقوم به الطبيعة}.

تحتوي المجموعة الدائمة في متحف الفن الحديث في نيويورك ثلاث تحف ورقية لدماين. وقد أعدّ هذه القطع بمعية والده، الفنان البصري مارتن دماين. في العام 2003، حاز إريك دماين {منحة العباقرة} من مؤسسة ماكارثر عن أعماله في مجال الأوريغامي القائم على المعلوماتية النظرية. وقد مُنح هذه الجائزة (قيمتها 500000 دولار) لأنه {تناول وحلّ مسائل صعبة تتعلق بالطي والحني، متنقلاً باستمرار بين النظري والمرح، عاملاً بدأب على إبراز الأول من خلال الثاني}.

يوضح دماين: {تأثرت حقاً بهذا التقدير. فقد اعتُبر الأوريغامي القائم على المعلوماتية النظرية في البداية فكرة مجنونة. ولكن تبيّن لاحقاً أن له الكثير من التطبيقات العملية}.

يواصل لانغ نشره سبل الأوريغامي. ففي محاضرة ألقاها أخيراً في متحف والترز للفنون في بالتيمور، عرض لانغ صوراً عن ساعته Black Forest Cuckoo Clock، فضلاً عن ضفدع أشجار وأيل روزفلت وغيرهما. وقد دخل متحف والترز في شراكة مع معهد علوم مقاريب الفضاء في بالتيمور لدعوة لانغ إلى هذه المدينة.

يقول لانغ عن عمله في مجال فيزياء ليزر: {عرف قليلون أنني أهوى فن الأوريغامي. فقد فصلت حياتي المهنية عن هوايتي. ولكن كم كان ممتعاً رؤية الدهشة على وجوه الناس حين يكتشفون موقعي على الإنترنت ويقولون: {لم تكن لدينا أدنى فكرة عن علاقتك بفن الأوريغامي}}.