براعة الاستهلال فن لا يتقنه الكثيرون، وقد يكون سوء الاستهلال العائق في عدم تقبّل القصيدة من القارئ أو تذمّر السامع. ولأن الاستهلال مهم فغالباً ما يكون مطلع القصيدة هو أصعب أجزائها وأكثر ما يستعصي على الشاعر.

لا يخفى على الشاعر أو القارئ الواعي أهمية الاستهلال في النص الأدبي عموماً والنص الشعري على وجه الخصوص.

Ad

والنص الشعبي ما هو إلا صنف من الكلام المؤدب الذي يحتاج كاتبه إلى أن يبرع كثيراً في استهلاله، ليجذب انتباه القارئ والسامع على حدٍ سواء.

وبراعة الاستهلال فن لا يتقنه الكثيرون، وقد يكون سوء الاستهلال العائق في عدم تقبّل القصيدة من القارئ أو تذمّر السامع. ولأن الاستهلال مهم فغالباً ما يكون مطلع القصيدة هو أصعب أجزائها وأكثر ما يستعصي على الشاعر لذا تجد الكثير من الشعراء يتجاوز كلل القريحة بمجرد استهلالها بمطلع يرضي ذائقتهم، وتتوارد الأبيات تباعاً في مخيلتهم.

ويُغفل الكثير من الشعراء أهمية القيمة البصرية والصورة الشعرية في المطلع الذي يعتبر تلميحا لما هو قادم في النص بل ان بعض الشعراء يستطيع باستهلاله أسر لب القارئ وشرح ما يختلج في صدره من مشاعر في أول بيت أو بيتين!

ومن أمثلة المطالع الجميلة والتي لا تغيب عن الذاكرة استهلال الشاعر الجاهلي امرئ القيس في معلقته المشهورة:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

وقد قيل: إنّه في هذه البداية البارعة وقَفَ واسْتَوْقَف، وبَكَى واستَبْكَى، وذكَرَ الحبيبَ ومَنْزِلَهُ فِي مِصْراعٍ واحِد. وقد استخدم الشاعر عايض الظفيري شهرة المطلع وما يكتنزه من دهشة وقيمة جذابة في إحدى قصائده وكان مطلع قصيدته:

قفا نضحك... لانا قد تعبنا من بكا يزداد

ولا دمعن يكفي ما بقى من حزن نبكي لـه

وبنفس الذكاء استغل الشاعر الشعبي عيضه السفياني شهرة وجمال حداء الانصار بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم:

«طلع البدرُ علينا... من ثنيات الوداع... وجب الشكر علينا... ما دعا لله داع» وكان مطلع قصيدته:

طلع الغـرب علينـا

من ثنيـات الخـداع

وجب الزحف إلينـا

من بقاع إليـا بقـاع

وفي الأدب الشعبي ينساق الكثير من الشعراء خلف الكثير من الصغائر التي لا تقدم للنص أو المتلقي ما هو مفيد مثل... (أبيات بدون نقط - ألف بيت... إلخ) ويجهدون انفسهم في جوانب لا تقدم شيئا للنص فعلياً ويهملون الجانب الأهم في النص وهو مطلعه!

فنقرأ الكثير من النصوص التي تحمل في مطالعها بالـ(البارحة - المرقاب - المشراف) بل ان تلك البارحة لم تبارح ذاكرة ومخيلة الشاعر الشعبي وأصبحت ممجوجة من القارئ ومستهلكه جداً لايمكننا انكار جمالها في النصوص القديمة لكنها أصبحت غير مقنعة في هذا الوقت اذا ما كانت بنفس القوالب التي صاغها أجدادنا.

فالتحديث في الشعر مطلب... ومن الذكاء أن يصنع الشاعر من التقليد حداثة.

وقرأت مثل هذا في مطلع مدهش للشاعر الحميدي الثقفي فكان:

البارحه عديت في مرقاب

وسط البلد في راس نافوره

كانت وجوه العابرين كتاب

اتصفحه واتأمل اسطوره

هنا كانت البارحة مختلفة ومحدثة وفق ما يحيط بالشاعر وللجمال والدهشة في مطالع الحميدي الثقفي ما قرأته هنا:

الناس قالت/ قالت اكتب لغاية

والغاية أكتب غير ما قالت الناس

وفي الأدب والشعر

الشعبي الكثير من المطالع المدهشة والمغايرة

وقد قرأت أيضاً لتركي حمدان:

حدثني أبو جهل عن عكرمـة عـن سعـد

...عن أم هيثم/ حديثٍ مثل يثـرب: قديـم

مثل هذه المطالع والبدايات الجميلة والمدهشة تضمن للنص القراءة أو الاستماع الكامل بل ان معاودة القراءة والاستماع أحرى لمثل هذه النصوص وأجدى لحفظها في ذاكرة الشعر لما فيها من جمال، وخير ما يدل على ذلك بقاء مطلع امرئ القيس محفوظاً على كل لسان وفي كل ذاكرة برغم ان معلقته لم تكن الوحيدة فإن مطلعها كان الأميز فكان الاكثر جريانا على ألسن العامة والمعنيين بالأدب.