صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» كتاب «ساطع الحصري، الدين والعلمانية»، للكاتب والباحث الدكتور أحمد ماضي، الذي يسلط الضوء على مسألتي الدين والعلمانية، وغيرهما من مسائل كثيرة تناولها ابن خلدون ساطع الحصري، في كتاباته الغنية بالمواقف والنظريات، وعلى رأسها التأسيس للفكر القومي العربي.

الحصري، بحسب الكاتب، يميز بين الدين القومي والدين الأممي، فيرى في الثاني العالمية والانفتاح، والميل إلى إيجاد رابطة أعم من روابط اللغة والتاريخ، ويميل أتباع الدين الأممي كثيراً إلى معارضة القوميات، وفي هذا السياق يذكر الكاتب المسيحية والإسلام. ويعتقد الحصري أن الأديان الأممية لم تستطع أن توحّد القوميات حتى عندما بلغت الذروة في سلطتها، ويذهب إلى عقد الصلة القوية بين الدين واللغة، وعلى هذا فاللغة العربية انتشرت كثيراً بواسطة الإسلام. لكن تأثير الدين يبقى في اللغة متغيراً، فكما يؤكد الحصري الحضارة العربية كانت قومية ولا دينية في آن.

Ad

أما العلمانية في نهج الحصري وكتاباته ومواقفه، فيرى المؤلف أنها كانت صريحة إلى أبعد الحدود، وهي برأي الباحث نابعة من الظروف التي كانت سائدة في الدولة العثمانية أولاً، والتي تعززت وتطورت بعد رحيله إلى الوطن العربي. لذلك يعتبر الكاتب أن الحصري يتفق في علمانيته مع طه حسين، رغم انتقاداته له، فهو يتفق معه بشأن الفصل بين السياسة والدين، فـ{السياسة شيء والدين شيء آخر»، و{لا يمكن إقامة السياسة على الدين، بأية صورة من الصور». وينسجم مع هذا ما ذهب إليه الحصري من فصل مطلق بين العلم والدين، مؤكداً أن هذا الفصل لا يفضي بصورة حتمية إلى اللادينية أو إنكار الدين أو التنصل منه، فلكل ميدانه ودوره. وبالنظر إلى نشدانه العلمانية فقد أكد أن الحضارة العربية لم تكن دينية، بل مدنية (علمانية).

نفوس

يلفت أحمد ماضي إلى أن الحصري كان يعتبر أن الدين هو ما له أولوية في تفكيره، ومن هذا المنطلق فقد آمن الحصري بأديان عدة. فكان دينه الأول العروبة، كذلك آمن بدينين آخرين هما العلم والوطنية، وعرّف الأخيرة بأنها «أحد أهم وأقوى النزعات الاجتماعية المتأصلة في النفوس البشرية»، وبشكل أبسط عرفها بأنها حب الوطن والشعور بارتباط باطني به، ويتضمن حب الوطن، حب المواطنين المنتمين إليه وحب الأرض التي يعيشون عليها.

في ما يتعلّق بالعلمانية والدين لدى ساطع الحصري، لا يلحظ ماضي في كتاباته وآرائه أنه كان ملحداً، لا صراحة ولا تلميحاً، كذلك لا يشير إلى أنه كان متديناً على أي نحو، وليس هناك ما يدل على أنه شكاك تجاه الدين. فالمهمة التي انتدب الحصري نفسه إليها لم تكن النظر في الدين، بوصفه ظاهرة إنسانية، ولا بصفته ظاهرة إلهية. بل تمثّلت مهمته في الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وفصله عن العلم.

يؤكد ماضي أن الحصري لم يكن يخوض في النقاشات الدينية، لكن ليس لأنه لم يكن متعمقاً في الأمور الدينية، كما يقول البعض، بل لأنه كان يعي أن الخوض في الدين أمر لا طائل له. لذلك كان يتحاشى أي حوار مع أي عالم من علماء الدين، لا سيما في العراق، المنقسم شعبه بين سنة وشيعة. وبما أنه كان يقدّس العقل والبرهان والبحث العلمي، فقد وجد أن المسائل الدينية لا تخضع لهذه الأمور، فغض الطرف عن المناقشات الدينية وتحاشى الخوض فيها.

الفكرة القومية

يفيد ماضي أن الحصري دعا إلى عدم الربط بين الفكرة القومية واللادينية، رغم أن الفكرة المذكورة هي لادينية أو علمانية، أي أنها تحدد مجال الدين، وليس بالضرورة أن تكون في تضاد معه. فهي تنأى بالدين عن التسييس، وتقصيه عن الهيمنة على الحكم وأجهزته وسياساته، الأمر الذي يجعل الحكم مدنياً، وبعيداً كل البعد عن أي تأثير للدين فيه. وفي دفاعه عن الفكرة القومية أيضاً، يؤكد الحصري أن التأليف والتوازن في أعمال التربية والتعليم يوجبان إيجاد «توازن معقول وترتيب مفيد» بين نزعات التلميذ «القومية والدينية والمدنية». فالنزعة الدينية لدى الحصري هي إحدى النزعات التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار تحقيقاً للتوازن، الأمر الذي يدل أن الحصري يولي أهمية معينة للدين في مكان محدد.

يضيف الكاتب أحمد ماضي بأن الحصري لا يملّ ولا يكل في التأكيد أن اللغة والتاريخ هما أهم عاملين يؤثران في تشكيل الأمم، من ناحية، وتميزها بعضها من بعض، من ناحية أخرى. ورغم ذلك، فإنه لم يغفل عن الدين، إذ حدد موقفه نحوه، بصورة مرنة. ويخلص ماضي إلى القول إن الدين هو العامل الثالث، من حيث الأهمية في تشكيل الأمم وتميزها، إذ يولد نوعاً من الوحدة في شعور الأفراد الذين ينتمون إليه، ويثير في نفوسهم، العواطف والنزعات الخاصة التي تؤثر في أعمالهم تأثيراً شديداً. لذلك يعد الدين، من هذه الوجهة، أحد أهم الروابط الاجتماعية، التي تؤثر في سير السياسة والتاريخ.

يذهب المؤلف ليعتبر أن الحصري أشار إلى الصراع الطويل بين رجال الدين ورجال العلم، وانتهى بانتصار العلماء، على أساس «تقرير استقلال العلم عن الدين». فبعد أن كان رجال الدن يصولون ويجولون، في القرون الوسطى، ويصدرون أحكامهم على هذا وذاك من العلماء والمفكرين، في ما يتصل بالحقائق العلمية، تبين أن الحقائق تكتسب عن طريق البحث والتجربة، ولا تستخرج من نصوص الكتب السماوية.

وفي ما يتعلق بعلاقة الدين مع الأمة لدى ساطع الحصري، يرى المؤلف أن الأخير عني بالأمة، لا سيما العربية، وساقته هذه العناية إلى إيلاء تعريفات الأمة ونظرياتها قدراً من اهتماماته. وإحدى النظريات التي اهتم بها تلك التي «تستتبع مفهوم الأمة بمفهوم الديانة، وتعتبر وحدة الدين أحد الأساس في تكوين الأمة». وعلى رغم عنايته بالنظرية المذكورة، فإن الحصري لا يعتقد أنها بلغت المبلغ، فعنايته بها مردها مكانتها في الفكر السياسي الإسلامي والعربي، فهو يعتقد أنها شغلت موقعاً مهماً في التفكير السياسي الذي ساد البلاد الإسلامية عموماً، والبلاد العربية خصوصاً، ولا تزال توجه أذهان بعض الكتاب في مختلف البلاد العربية. ويمضي الحصري إلى القول إن هذه النظرية شغلت الموقع المذكور جراء الخلط بين الدين والسياسة. وهذا الخلط استمر في البلاد الإسلامية حتى القرن العشرين. وجراء هذا الخلط حارب كتاب ورجال الدين والسياسة الفكرة القومية بحجة مخالفتها الديانة الإسلامية.

الإلحاد

يعلّق ماضي على موضوع العلمانية في الوطن العربي، فكل شخص علماني أو يدعو إلى العلمانية، يعتبر زنديقاً أو لادينياً، في أحسن الأحوال. وإذا كان من المسلمين، اعتبر عدواً لدوداً للإسلام. وهذا الرأي، بحسب المؤلف، ينطوي على عدم إلمام أو إحاطة صاحية بالعلمانيين، بل ينطوي على افتراء. فشتان بين العلمانية والإلحاد. وكل شخص يمعن النظر في كتابات الحصري يخلص إلى أن علمانيته لا تصنف بأنها عدوة للإسلام، بل تؤكد هذه العلمانية الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الإسلام في تشكيل الأمة العربية، وتوسيع نطاق العروبة، مع ترسيخ أركان بنيانها، وتشديد مقاومتها عوامل التجزئة التي عصفت بها. ومما اعتقده الحصري، بعيداً عن الاعتبارات العقائدية أن دراسة تاريخ الأمة العربية دراسة علمية قائمة على الوقائع والأحداث، ومستندة إلى معطيات التاريخ، توصل الباحثين، ويعني نفسه أولاً، إلى تحقيق مجموعة من الحقائق.

ويشير الكاتب إلى أن الحصري والقوميين عموماً يعظمون من شأن العرب قبل الإسلام، ليدللوا أن عظمة العرب في عصور الإسلام لم تكن طفرة في حياتهم، بل هي امتداد لعظمتهم السابقة.