أشعر كما لو أن لكل إنسان بئراً داخلية تنتح منه، مخزون البئر يتكوّن بناءً على وضع الإنسان الأسري، وتجربة حياته الاجتماعية، وعلمه ووعيه، ومسلكه الشخصي، وثقافته. ودائماً ما تشفّ مياه تلك البئر في إناء منطق الإنسان وحديثه، فكلٌ يتداول مع الآخرين بمخزون بئره، وكلما كانت مياه البئر صافية ومتجددة، ضَمَنَ الإنسان رصيداً كبيراً من العلم والمعرفة والأدب، بما ينعكس واضحاً على لطف معشره ومجلسه ومفردات حديثه، ويجعل من وصله الإنساني مبعث ودٍ، يغري بالاستماع والإنصات إليه، وربما الاستفادة من تجربته الإنسانية والحياتية والثقافية.الأديب ينتج أعماله الإبداعية ناتحاً من بئر خبرته وتجربته ووعيه، لذا تأخذ هذه الأعمال طعم مياه البئر ورائحتها ولونها، وهذا يحتم بالضرورة بحث الأديب المبدع الدائم عن مصدر مياه جديدة يغذي بها بئره، ويحتم عليه أيضاً محاولة البحث عن آبار أخرى في تربة قلبه. أدباء كثر أبدعوا أعمالاً كانت غاية في الروعة وفي تمثيل جنسها الأدبي، ووقتها حققت لهم هذه الأعمال حضوراً إبداعياً وثقافياً كبيراً، لكن، عودة هؤلاء الأدباء إلى النتح من البئر ذاتها، وتناول المواضيع ذاتها باللغة والمفردات ذاتها، قلّلا من بريق أعمالهم في مرحلة لاحقة، وربما جمداها عند طعمها الأول في مرحلة تالية، وأحالاها إلى البؤس، وذلك عند إصرار الأديب على استثمار نجاح أعماله السابقة.إن مهمة الأديب المبدع مهمة عسيرة في كتابة أعمال متجددة، أعمال قادرة على الإبداع في جنسها من جهة، وقادرة على أن تكون متجددة، شكلاً ومضموناً، من جهة ثانية، وأخيراً متمكنة من مجاراة أحداث عصرها، والمراهنة على البقاء بنَفَسٍ إنساني، وإبداع يأبى على الخفوت والذبول والموت.إن إصرار بعض الأدباء على النتح من البئر ذاتها، يجعل منحى أعمالهم يتجه إلى الأسفل، وصحيح أن نتاجهم الأدبي قد يلاقي رواجاً لدى جمهور القراء، لكنه يستلزم وقفة صادقة وجادة وموضوعية من جمهور النقاد، وتقييماً حقيقياً لقيمة هذه الأعمال إلى جانب أعمال جديدة، قد تكون لأسماء شبابية تستحق العناية والاهتمام، لأنها تأتي من آبار جديدة بطعم جديد ونكهة ومذاق جديدين.كي يبقى الأديب ينتج أعمالاً إبداعية متجددة، فليس له إلا وصل لا ينقطع بالقراءة والبحث، وتأمل نهر الحياة بصيرورة جريانه، والنزول إلى طين النهر أحياناً، وكذلك الوقوف على الضفة ومراقبة النهر في حفر مجراه، وفي حمل سفن البشر الغادية والذاهبة، في أحيانٍ أخرى. كل هذا يقدم للأديب فهماً لكُنْهِ الحياة ومعناها، ويفتح في قلبه آباراً متجددة، ويضمن له مكانة متجددة لدى جمهور قرائه.
توابل
البئر... الحياة!
03-11-2009