تُعتبر حربا العراق وأفغانستان الطويلتان والمستمرّتان، بالإضافة إلى الركود العالمي الناجم عن أزمة "وول ستريت"، من بين المؤشرات على التراجع النسبي الذي يشهده الاقتصاد الأميركي والنفوذ العسكري، فها هي القوى الناشئة المتوسطة الحجم مثل تركيا وإيران في الشرق الأوسط، والبرازيل في أميركا الجنوبية، تتحدى التفوق الدبلوماسي الأميركي.

Ad

ظهرت معالم القوة الدبلوماسية الجديدة في وقتٍ سابق من هذا الشهر في إسطنبول، فاستضافت هذه المدينة قمة المؤتمر الخاص بالتفاعل وبناء الثقة في آسيا، وقد ضمّ 20 عضواً وترأّسه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وقد شهد هذا المؤتمر أيضاً أول منتدى تعاون بين العرب والأتراك برئاسة تركيا، لقد برزت تركيا على الساحة الدولية، فهي عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، وكانت حتى فترة قريبة أحد الحلفاء الإقليميين النادرين لإسرائيل. واستجمعت تركيا شجاعتها أيضاً لتحدّي واشنطن، فصوّتت ضد قرار فرض عقوبات على إيران الذي ترعاه الولايات المتحدة في مجلس الأمن.

في منتصف شهر مايو، وقّع وزير الخارجية التركي، أحمد أوغلو، إلى جانب نظيره البرازيلي، صفقة مع وزير الخارجية الإيراني، ما أضعف جهود الولايات المتحدة لعزل إيران بسبب رفضها التخلي عن برنامج تخصيب اليورانيوم. بعد مرور أسبوعين، وجدت تركيا نفسها في موقف حرج حين أقدمت نخبة القوات البحرية الإسرائيلية على مهاجمة أسطول صغير، برعاية منظمة تركية لحقوق الإنسان، كانت في طريقها إلى غزة المحاصرة وتحمل على متنها إمدادات مدنية. أسفر ذلك الهجوم، الذي سُميّ بعملية "رياح السماء"، عن مقتل 9 أشخاص ونسف علاقة مميزة عمرها عقدين من الزمن بين تركيا وإسرائيل.

أدّت هذه الأحداث إلى ترسيخ تركيا، الواقعة بين أوروبا وآسيا، كقوة ناشئة متوسطة الحجم في منطقة استراتيجية، وتشكّل هذه الحوادث، التي تبقى طبيعية في مجملها، جزءاً لا يتجزأ من العملية التي بدأت بهزّة سياسية سلمية، أي فوز حزب العدالة والتنمية في نوفمبر من عام 2002، وهو حزب إصلاحي له جذور إسلامية، ما وضع حدّاً لنصف قرن من توالي الحكومات الائتلافية الانتهازية في تركيا.

يُعتبر هذا الحزب خلفاً معتدلاً لحزبين إسلاميين سابقين تفكّكا بقرارٍ صدر عن قضاة علمانيين في المحكمة الدستورية، في عامي 1998 و2001، بسبب انتهاكهما دستور البلاد العلماني.

فضلاً عن اتخاذ خطوات حاسمة في مجال مكافحة الفساد، عمدت الحكومة التي يرأسها حزب العدالة والتنمية إلى إعادة تقييم شاملة لسياستها الخارجية. اعتبر أوغلو أنّ كسب القوة والنفوذ بشكل كامل يفرض على تركيا أن تستعمل العمق الاستراتيجي الذي تتمتع به الدول المجاورة لها، مع التركيز أولاً على الدول المشابهة لها ثقافياً. هذا ما دفع إدارة أردوغان إلى تعزيز روابط بلادها مع إيران وسورية. أدت الحكومة دور الوسيط بين سورية وإسرائيل لحلّ مسألة هضاب الجولان التي تحتلها إسرائيل، لكنها لم تنجح في مساعيها بسبب تغيّر الحكومات في إسرائيل.

ربما يعود الاعتراف الدبلوماسي التركي بإسرائيل إلى واقع انتماء تركيا إلى حلف شمال الأطلسي، فقد كان الاعتراف بإسرائيل شرطاً أميركياً مسبقاً، فوافقت تركيا على ذلك الشرط وأصبحت العضو المسلم الوحيد في حلف شمال الأطسي، عام 1952، لكنّ ذلك لم يمنع الحكومة التركية من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1986.

بعد عقد اتفاق أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين، عام 1993، ازدهرت العلاقة المميزة بين تركيا وإسرائيل، وفي عام 1997، وقّع البلدان اتفاقية تجارية حرّة، وتزايد التعاون العسكري إلى درجة دفعت الدولتين إلى تنظيم تمارين سنوية مشتركة للقوى المسلّحة، وأذنت أنقرة لإسرائيل بإنشاء مركز تنصّت سرّي بالقرب من حدودها مع إيران.

وغداة عملية "رياح السماء" الإسرائيلية، ألغت أنقرة التمارين العسكرية المشتركة مع قوات الدفاع الإسرائيلية، صحيح أنّ الطرفين سيلتزمان بالاتفاقات الدفاعية الراهنة، لكن لا أمل في عقد اتفاقات عسكرية أخرى بين البلدين.

أدّت مقاطعة حكومة "حماس" التي فازت بالانتخابات الشعبية في الأراضي الفلسطينية، عام 2006، تلاها الهجوم الإسرائيلي على غزة طوال ثلاثة أسابيع اعتباراً من شهر ديسمبر من عام 2008، إلى تشنّج العلاقات الإسرائيلية التركية وصولاً إلى نقطة اللاعودة. صرخ أردوغان في وجه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، في يناير 2009، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي: "حين يتعلق الأمر بالقتل، فأنتم الأبرع على الإطلاق".

على صعيد آخر، تسلل التعب إلى صانعي السياسة الأتراك في مجال دبلوماسي آخر، صحيح أنّ الأتراك لم يسحبوا ترشيحهم من الحصول على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، وهو ملفّ قيد الدرس منذ عام 1999، لكنهم فقدوا اهتمامهم في الانتساب إلى الاتحاد. نظراً إلى الأزمة الاقتصادية التي تشهدها منطقة اليورو واستمرار معارضة ألمانيا وفرنسا لعضوية تركيا، تراجع سحر الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى الأتراك، وتركّز تركيا الآن على المنطقة الإقليمية حيث تحتلّ موقعاً جغرافياً مهماً.

كما تقترن عملية إعادة التمركز في السياسة الخارجية التركية مع التطورات المحلية، فطوال عقود تلت تأسيس الجمهورية في عام 1923، سيطرت نخبة ثرية من خرّيجي الجامعات الذين يميلون إلى نمط الحياة الغربي- والمعروفون باسم الأتراك البيض- على المجالات العسكرية، والإدارية، والقضائية، والتعليمية، فمارسوا صلاحيات متفاوتة.

سرعان ما تبخّرت قوّتهم حين بدأ سكّان الريف يتوافدون بأعداد كبيرة إلى مراكز المدن اعتباراً من الستينيات، فتعلّموا وكسبوا دعماً كبيراً في الاستحقاقات الانتخابية، وابتداءً من منتصف الثمانينيات، تزايد عدد الأتراك العاديين الذين استفادوا من الخدمات غير المسبوقة في مجال المعلوماتية ووسائل النقل الشخصية مثل الفضائيات التلفزيونية، والهواتف، والسيارات، ومع ارتفاع نسبة المتعلّمين إلى معدّل يفوق الـ90%، لم تعد الطبقة العاملة والطبقة الدنيا تخشيان الأتراك البيض.

وجد الوافدون الريفيون إلى المدن- يبلغ عددهم حوالي ربع السكان الأتراك الذين يصل عددهم إلى 72 مليون نسمة- راحتهم في المساجد وفي مؤسسة خيرية ضمن حزب العدالة والتنمية، وفي البيئة المدنية الباردة وغير المألوفة، وجد هؤلاء ملاذهم الأخلاقي في الإسلام.

غير أنّ الدين ليس العامل الوحيد الذي يطبع مسار تركيا الحديث، إذ تعمد السياسة الخارجية التي وضعها أردوغان إلى إعادة ربط تركيا بتاريخها وموقعها الجغرافي، تزامناً مع تعزيز موقعها الإقليمي والعالمي.

Dilip Hiro

* روائي وكاتب سياسي ومؤلف كتاب "After Empire: The Birth of a Multipolar World".