تصدّى أنور وجدي لإخراج «ليلى بنت الفقراء» بعد رحيل كمال سليم، وأثناء تصوير الفيلم قرّر أن يتزوج ليلى مراد، فقد وقع أسير غرامها من ناحية، ومن ناحية أخرى كان خائفاً من أن يستغلّ مواهبها مخرج آخر غيره، وكان مفترضاً انتهاء أحداث الفيلم بزواج البطل أنور من البطلة ليلى ابنة الفقراء، فبُنيت الديكورات بناءً على هذه النهاية.قبل تصوير الفيلم كان أنور يخشى مفاتحة ليلى في موضوع الزواج، فطلب من إسماعيل ياسين جسّ نبضها، ووجد الأخير عدم رفض أو قبول، وهو ما نقله إلى أنور الذي لم يكن يضيّع وقته وبادر فوراً بطلب يدها، وهمس في أذنها: - تتجوزيني يا ليلى؟- موافقة. وما إن انتهى تصوير المشهد الأخير حتى أعلن أنور وجدي نبأ الزواج فوراً أمام الجميع، وكان معروفاً عنه حرصه الشديد على عدم صرف المال، بسبب أيام الفقر والجوع والتشرّد التى عاناها، وحتى يوفر في نفقات إقامة فرح حقيقي، انتهز وجود الديكورات وأكد للجميع أن هذا هو زواجه من ليلى مراد، فاحتفل الجميع بزفافهما في اليوم نفسه من انتهاء تصوير بالفيلم. فاتحة خيرلم يغب إسماعيل ياسين عن عقل الفنان والمخرج أنور وجدي، فتوطدت الصداقة بينهما، واستعان به في بطولة فيلم «قلبي دليلي» عام 1947، إلى جانب محمود شكوكو وإلياس مؤدب، ومعهم الخريج الجديد من معهد التمثيل فريد شوقي، واستيفان رستي وبشارة واكيم، وغيرهم، وبرع فيه إسماعيل تمثيلاً وغناءً، ثم تبعه فيلم «عنبر». ولم يكن اسماعيل يتردد في تلبية طلب وجدي، في الوقت الذي كان مشغولاً بالمشاركة في أفلام كثيرة منها: «يحيا الفن, صاحب العمارة، حب وجنون, الصيت ولا الغنى, خلود، السعادة المحرمة, الروح والجسد، أميرة الجزيرة, وخيال امرأة».يوماً بعد يوم كان تفاؤل إسماعيل بزوجته يزداد فمنذ زواجهما وهو في صعود دائم ولا يعرف الفشل، إذ انتقل في السينما من الأدوار المساعدة إلى الأدوار الرئيسة، وارتفع أجره من الآحاد إلى الألوف. وكان لا بد من أن يكافئها على ما تفعله معه، فانتقلا من شقتهما المتواضعة إلى شقة فاخرة في منطقة الزمالك.وعلى رغم حرص فوزية على الاقتصاد، بهدف بناء حياتهما، إلا أنها كانت تطلب من إسماعيل أن يظهر دائماً بأحسن مظهر، وعندما وجدت الوقت مناسباً بعد الانتقال إلى السكن في أرقى أحياء القاهرة حرصت على أن يشتري أحدث سيارة وأجمل الملابس، وبمرور الأيام، وجد إسماعيل أن زوجته استطاعت أن توفر له شبه ثروة، وكان هذا يحثّه على أن يعطيها أكثر، ولا يسألها عما تفعل. عاش إسماعيل ينهل من عسل حياته الزوجية، وكانت سعادته أكبر عندما تصالح مع أهل زوجته، خصوصاً بعدما أصبح اسمه على كل لسان. وبعد ثلاث سنوات من زواجه قرر السفر مع زوجته إلى الإسكندرية، في زيارة عائلية، والعمل في فيلم جديد، وما إن دخلت فوزية إلى بيت أهلها حتى أصيبت بحالة إغماء شديد، فأحضر إسماعيل الطبيب وتبيّن أنها حامل.كاد إسماعيل يطير فرحاً بهذا الخبر السعيد، وبعد تسعة أشهر، أي في 20 مارس (آذار) عام 1949، رُزق بأول وآخر طفل، وقد سماه على اسم والده ياسين، ووفّر له كل اهتمامه والكثير من العناية والحب والدلال.بعد ولادة ياسين بشهور قليلة اشترى إسماعيل فيللا في الزمالك وأقام فيها، وهنا تذكر والده، فقد مضت سنوات طويلة لم يره فيها. ترى كيف أصبح؟ وكيف حاله وهل لا يزال على قيد الحياة؟!العودة إلى أيام الثراءأصر اسماعيل على السفر إلى السويس، خصوصاً بعد أن وفّقه الله وأصبح ميسور الحال. ولدى وصوله وجد أباه على حاله يعمل لدى أحد الصاغة بعد أن باع دكانه ولم يعد يملك شيئاً فقال له: - اسمع يا والدي أنا الحمد لله ربنا فتح عليا. علشان كده أنا هرجعلك كل حاجة. المحل وتجارتك، مش هسيبك تاني تتبهدل. بس اوعدني يا والدي إنك تبعد بقى عن موضوع الستات والشرب والحاجات اللي بالي بالك دي.- أوعدك يا ابني. وأنا اللي كنت فاكرك نسيتني خلاص بعد ما ربنا فتح عليك وكانت بتوصلني أخبارك!- انت عارف إن ابنك كده، أنا بس كنت مستني ربنا يفرجها. وأول ما حصل جت لك.- متتصورش كنت ببقى فرحان قد إيه لما بسمع أخبارك ولا أشوف صورتك في جورنال. كنت ببقى عايز أصرخ وأقول لكل الناس إن ده ابني. بس كنت بخاف «أعرك» ولا أسببلك مشاكل.- أنا عمرى ما استعر منك. أنا فخور إني ابن المعلم ياسين. وكمان سميت أول ابن لي على اسمك، ياسين.- يعني أنا بقيت جد.أعاد إسماعيل والده إلى محله الكبير بل واشترى له محلاً آخر إلى جانبه، وأعطاه مبلغاً يضمن له بدء العمل بقوّة. لكن ما كاد الوالد يبدأ عمله حتى عاد إلى سيرته الأولى وأقبل مجدّداً على حياة الليل والصخب، وكان هذا يكلفه كثيراً فأخذ يبدد محتويات المحل ويطلب من إسماعيل أن يمده بالمال بحجة أنه يريد شراء بضائع جديدة.كان إسماعيل يرسل الى والده كل ما يريده ولم يكن يعرف أنه ينفق أمواله على السهر واللهو مدعياً أنه يسافر لشراء بضائع، وكان إسماعيل يصدقه لأنه كان يحبّه من أعماقه.لقاء مع الملكأصبح إسماعيل بنجاحه المتواصل في السينما «تميمة الحظ» لكثير من الفنانين والفنانات الذين بدأوا حياتهم الفنية خلال فترة ظهوره الطاغي على شاشة السينما، وحدث هذا مع المخرج الكبير صلاح أبو سيف حين استعان به في أول أفلامه، وتكرر الأمر مع عدد كبير من المخرجين الذين حرصوا على أن تكون بداياتهم في السينما من خلال العمل مع إسماعيل ياسين، بعد أن عمل بعضهم كمساعد مخرج في بعض أفلامه، ضماناً لعدم المخاطرة أو كسراً لرهبة التجربة الأولى بالاعتماد على نجم سبق التفاهم معه، ومنهم: حسن الصيفي، حسن حلمي، حمادة عبد الوهاب، وفطين عبد الوهاب. كان إسماعيل ياسين «حدوتة المصريين» في القرن العشرين، ومنذ عام 1948 تحديداً انسحب نهائياً من إلقاء المونولوجات في المسرح والملاهي ما عدا بعض الحفلات التي كانت تقام في المناسبات. وكان من بينها حفلة دُعي فيها لإلقاء بعض مونولوجاته في العام 1950 في ملهى «الأوبرج»، وكاد يفقد فيها حياته. كان الحفلة خيرية لصالح جمعية «مبرة محمد علي»، وحضرها الملك فاروق الذي فقد وقاره في تلك الليلة من شدة الضحك حين كان إسماعيل يلقي مونولوجاته ونكته، وأوعز إلى أحد رجاله بأن يدعو إسماعيل إلى القاعة الخاصة بالاستراحة الملكية.وحين جاء وقت الاستراحة، وقف إسماعيل أمام الملك وهو في حالة خوف وتوتر وقلق، فبادره الملك قائلاً: - يلا يا إسماعيل سمِّعنا نكتة جديدة.ومن فرط الارتباك بدأ إسماعيل النكتة قائلاً:- مرة واحد مجنون زي جلالتك كده!!فصرخ الملك:- انت بتقول إيه. ده مجنون؟أدرك إسماعيل أن الارتباك أوقعه في مصيبة، وقد أخطأ في الكلام، فما كان منه إلا أن سقط أرضاً متظاهراً بأنه أُغمي عليه، ثم نهض الملك لمتابعة الحفلة غاضباً، وبقي بعض رجال الحرس الملكي حول إسماعيل لمعرفة مصيره الذي سيأمر به الملك. فلا بد من أن ثمة عقاباً ينتظره!بقي إسماعيل يتصنّع الآلام طوال ما تبقى من مدة الحفلة، بل وكان يتمتم بألفاظ غريبة حتى سأل عنه الملك فاروق وحين قيل له إنه لا يزال مغشياً عليه أمر الدكتور يوسف رشاد، طبيبه الخاص، بعلاجه.أدرك الطبيب الموقف وعرف أن إسماعيل يتظاهر بذلك كله من شدة الخوف فقال للملك: - لا لا مفيش كلام من ده. إسماعيل مريض وتصيبه حالة من ضعف الذاكرة وفقد الإدراك واضطراب الأعصاب، وهو في حاجة لأن يقضي فترة تحت الرقابة الطبية لمعالجة هذه الحالة.فهم إسماعيل أن الملك عاقبه بإيداعه مستشفى الأمراض العصبية والنفسية، فراح يبكي بدموع حقيقية وهو ملقى على الأرض، ثم نُقل إلى مستشفى «المبرة» ليعالج على نفقة الملك مع العناية التامة به.صدرت الصحف في اليوم التالي مشيدةً بالعطف الملكي الكريم على إسماعيل ياسين، وأشارت إلى أن الممثل عاوده مرض الصرع أثناء الحفلة الخيرية، التي كان الملك يحضرها، والذي أمر بعلاجه على نفقته الخاصة.أصبح هذا الموضوع حديث الناس في المجتمعات، ومناسبة لتوجيه الشكر من الجميع للملك فاروق.غادر إسماعيل المستشفى بعد عشرة أيام وكتم سر تلك الحكاية ولم يروها لأحد أبداً، حتى ولو بينه وبين نفسه، لكنه فوجئ بعد ذلك بمندوب من المستشفى يطلب منه حساب إقامته!فقال له إسماعيل:- أنا علاجي كان أمر فيه الملك وعلى حسابه والصحف نشرت الكلام ده!فرد عليه مندوب المستشفى:- الخاصة الملكية رفضت دفع مليم واحد. ولازم تدفع حساب المستشفى أو تفضل هنا لحد ما الفلوس تندفع!كاد أن يغمى على إسماعيل عندما وجد أن فاتورة المستشفى تزيد على مائتي جنيه، لكن فوزية كانت على استعداد لدفع أضعاف المبلغ ولو عشر مرات، فدفع المبلغ مجبراً لأنه خشي أن تتأزم الأمور ويدعوه فاروق الى إلقاء نكتة ما أمامه.قيام الثورةظل إسماعيل ياسين يتذكر هذا الموقف بينه وبين نفسه فحسب، ولم يجرؤ أن يذكره حتى أمام زوجته، لما يحمله من ذكريات أليمة، وخشية أن ينكَّل به، فقد كان يكره الحفلات التي كانت تقيمها الأسرة المالكة ويكره أن يدعى إليها، بل بات منذ ذلك اليوم يكره أن يسمع بسيرة الملك أو أي من أفراد الأسرة المالكة، حتى استيقظ على البيان التالي في الإذاعة المصرية صباح 23 يوليو (تموز) 1952:«لقد اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في فلسطين، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب».تلقى إسماعيل ياسين هذا النبأ بفرحة غامرة، مثل بقية الشعب المصري، غير أن سعادته كانت خاصة، فقد شعر بأن القدر انتقم له.أراد إسماعيل أن يشارك الجيش والشعب هذه الفرحة، ولكن ماذا يفعل؟ فقد كان آنذاك انتهى مباشرة قبيل قيام الثورة من تصوير فيلمه «اللص الشريف»، سيناريو وحوار علي الزرقاني، إخراج حمادة عبد الوهاب، وشاركته البطولة شادية ولولا صدقي، فأوقف إسماعيل عرض الفيلم وأصر أن يضيف إليه مشهداً يقدم فيه مونولوجاً يعبر من خلاله عن فرحة الشعب بالثورة وإعلان مساندته للجيش، واتفق على ذلك مع المخرج. وبالفعل صوّر المونولوج وهو يغني في الشارع بين الناس، تعبيراً عن فرحة الشعب، وأكدت الكلمات التي كتبها الشاعر «ابن الليل» ذلك:عشرين مليون وزيادة كانوا عايشين هنا أمواتعلشان حضرات السادة البهوات والبشواتكان الفلاح أجري يامشكاح لجل اللي عايش مرتاحوأبو كرش كبير داير بنكير في أوروبا عامل سواحوبوتيك سليمان وعلى النسوان وعلى الكونكان فودفيل وبكاماصرف كُع ما في الجيب يأتيك يا ابني ما في الغيبوما بعد سعادته سعادة أصله وجيه وابن ذواتخدعوه حضرات السادة البهوات والبشواتالغني من دول كان قد القول كذا ألف وكذا فدانكان هو السِّيد والباقي عبيد وكلامه تقول قرآنسجن وترابيس أحرار محابيس والعجل أبيس داير تهليسيسرق ويقولوا أمين. يكفر ويقولوا أمين ويقولوا ده شيخ سجادة وصاحب كراماتخدعوه حضرات السادة البهوات والبشواتكان عهد فساد واسود وسواد على شعب أصيل وكريموالمولى أراد وكان بالمرصاد وسمع شكوى المظاليمكان فرجه قريبوسميع ومجيبوالجيش ونجيب عملوا الترتيبوبفضل المولى عليه سعدنا تم على أيديهوالشعب بقاله إرادة هزت كل الشنباتوبقينا كلنا سادة ولا بهوات ولا بشواتعشرين مليون وزيادة.هزّ إسماعيل ياسين بهذا المونولوج وجدان جميع فئات الشعب المصري، بمن فيهم أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر، الذي كان أحد عشاق فن اسماعيل، وزاد حبه وعشقه له بعد أن شاهد هذا المونولوج في الفيلم. غير أن اسماعيل لم يكتف بهذه التحية، فبعد حوالى شهر تقريباً قدم «اسكتش الثورة» بمشاركة الفنانة شادية من خلال فيلم «حظك هذا الأسبوع» الذي كان من بين مجموعة أفلام قدمها إسماعيل ياسين خلال عام 1953 وكان من بينها: «بنت الأكابر، عفريت عم عبده، دهب، بين قلبين، كلمة حق، بيت الطاعة، ابن ذوات، الحموات الفاتنات، حرام عليك، الدنيا لما تضحك، نشالة هانم، فاعل خير، اشهدوا يا ناس، لحن حبي».كذلك شارك إسماعيل الى جانب أسماء عدة بأداء الدور الثاني أو السنيد لها في بداياته مثل بشارة واكيم، حسن فايق، هند رستم، تحية كاريوكا ومحسن سرحان، ثم أصبح البطل الأول في أفلامه، ليس هذا فحسب، بل كان يحاط دائماً بكوكبة من كبار ممثلي الكوميديا مثل استيفان روستي، عبد الفتاح القصري، عبد السلام النابلسي، محمود شكوكو، سعاد مكاوي، ثريا حلمي، رياض القصبجي، حسن أتلة، ماري منيب) وغيرهم.أصبح اسماعيل النجم الأول والأغلى، تتنافس عليه مجموعة كبيرة من نجمات السينما آنذاك، ووقفت أمامه ممثلات كبار شاركنه البطولة في أفلامه، مثل شادية، كاميليا، هند رستم، تحية كاريوكا، زهرة العلا، نجاح سلام، نزهة يونس، فريدة فهمي، هدى شمس الدين، ثريا حلمي، برلنتي عبد الحميد، آمال فريد، فيروز (طفلة وشابة) فايزة أحمد، لولا صدقي، مها صبري، سامية جمال وغيرهن.
توابل
إسماعيل يس... حكاية رجل حزين (22) ليلة العيد
16-09-2009