أطلق الشيخ رفسنجاني صاروخاً ضوئياً في عتمة الساحة السياسية الإيرانية، حين اعتلى منبر صلاة الجمعة المركزية في جامعة طهران يوم الجمعة الماضي، وبحضور المرشحين الخاسرين في انتخابات الرئاسة الأخيرة مير حسين موسوي ومهدي كروبي. يعرف آية الله هاشمي رفسنجاني رمزية المكان، إذ إن جامعة طهران التي تشهد صلاة الجمعة المركزية منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، هي المنبر الأكثر أهمية لإطلاق الرسائل والشعارات إلى الداخل والخارج. في ساحة صلاة الجمعة هذه أطلق النظام الإيراني الثوري رسائل تاريخية واكبت المحطات المفصلية للثورة بداية من احتجاز الرهائن الأميركيين قبل ثلاثين عاماً إلى الحرب العراقية الإيرانية ومروراً بخلافة الإمام الخميني التي استقرت في يد المرشد الحالي السيد علي خامنئي، وكلها محطات لعب فيها رفسنجاني دوراً محورياً وأساسياً. وتختلف صلاة الجمعة في إيران عن بقية الدول الإسلامية من حيث هي صلاة تعبدية سياسية (نماز عبادي سياسي) وليست تعبدية فقط. وبالإضافة إلى أهمية المكان، فقد كانت أهمية الزمان حاضرة بشدة حيث إن خطبة رفسنجاني شكلت الظهور العلني الأول له بعد انتخابات رئاسة الجمهورية العاشرة، التي كرَّست انقسام النخبة الإيرانية وتوزعها على معسكرين؛ واحد مؤيد لأحمدي نجاد والتيارات الداعمة له، مقابل المعسكر المؤيد للطيف الإصلاحي ورموزه الثلاثة مير حسين موسوي ومحمد خاتمي ومهدي كروبي. تشهد العوامل الثلاثة: المكان والزمان والشخصية، باستثنائية خطبة الجمعة الماضية وأهميتها الفائقة في الحراك السياسي الجاري في إيران، خصوصاً أن المضامين السياسية لخطبة الجمعة الماضية كانت حافلة بالرسائل إلى كل الأطراف تقريباً. وإذ منع التلفزيون الرسمي نقل صلاة الجمعة مباشرة مثلما هي العادة كل أسبوع، إلا أن الحضور المقدر بمئات الألوف داخل جامعة طهران وخارجها كان دليلاً واضحاً على أهمية الخطبة وعلى شعبية التيار الإصلاحي في إيران. تمثل المتن الأساسي لخطبة رفسنجاني في وجود «أزمة ثقة» بين المواطنين والنظام بسبب الانتخابات الأخيرة، وهو ما فنَّد كل الاتهامات للإصلاحيين مثل «الضلوع في الحرب الكونية» ضد الرئيس نجاد أو «العمالة للخارج» التي أطلقتها التيارات المؤيدة للرئيس أحمدي نجاد على المتظاهرين. ولم يكتف رفسنجاني بضرورة مواجهة «أزمة الثقة» التي تحدث عنها، بل طالب بإطلاق سراح المعتقلين في التظاهرات التي أعقبت الانتخابات فوراً، وبالتالي وضع رفسنجاني خصمه أحمدي نجاد في موضع الاتهام وطالبه بإجراءات فوراً. واللافت أن رفسنجاني لم ينزل إلى مستوى أحمدي نجاد بحيث يتوجه له بالكلام، بل حرص دائماً على أن يكون في مكانة معنوية أعلى منه بالتلميح إلى مَن يحمي أحمدي نجاد وليس الرئيس كشخص. هنا بالتحديد لم يوفر الشيخ رفسنجاني مرشد الجمهورية من رسائله السياسية المغلفة في الخطبة، فهو أعاد إلى أذهان المصلين تلك الواقعة التاريخية التي سأل فيها النبي (صلعم) قبل وفاته أصحابه إن كان يوماً ظلمهم، في إشارة إلى المرشد الذي امتنع عن حمايته في مواجهة اتهامات الفساد التي أطلقها الرئيس أحمدي نجاد حياله وحيال أسرته والتي يستقوي فيها بعلاقته بالمرشد.يعتبر الشيخ رفسنجاني أحد رموز الثورة الإيرانية القلائل التي تذكر به ويذكر بها، وهو الشخصية التي يجمع أفراد النخبة الإيرانية على أنها تأتي رقم 2 في الدولة الإيرانية بعد المرشد، وإن كان هناك اختلاف في تقدير المسافة التي تفصله عن الرقم واحد. تقلب رفسنجاني في مناصب الدولة الإيرانية العليا حيث شغل منصب رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية لفترتين منذ عام 1989 وحتى عام 1997، ويشغل الآن منصب رئيس «مجلس الخبراء»، الذي يعيِّن المرشد ويعزله. وفوق ذلك فالشيخ رفسنجاني رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يفصل في الخلافات بين المؤسسات الدستورية الإيرانية المختلفة، وله دور جوهري في الفصل بين صلاحياتها في بنية إيران الدستورية المعقدة والمتشعبة. انتمى رفسنجاني إلى الجيل الأول للثورة وكان دوماً بالقرب من الإمام الخميني الراحل، والدليل على ذلك أنه أدار الحرب العراقية-الإيرانية بالرغم من أنه لم يكن وقتها رئيساً للجمهورية، ولا حتى وزيراً للدفاع، ولكنه امتلك الأهم من ذلك: ثقة الإمام الخميني وحسن ظنه. وبعد وفاة الإمام الخميني أخرج رفسنجاني معركة انتقال السلطة إلى المرشد الحالي، بالرغم من وجود المراجع الأكبر سناً والأعلى في المؤهلات العلمية الفقهية، تاركاً بصماته على المحكات الأساسية للنظام وتاريخ الثورة.تجمع رفسنجاني بالمرشد السيد خامنئي علاقة تاريخية معقدة، كلاهما كان إلى جوار الإمام الخميني، كلاهما تلقى الاتهام من الشيخ منتظري بالعمل على إطاحته من منصب قائم مقام مرشد الجمهورية قبل وفاة الإمام الخميني بشهرين. كلاهما امتلك مستوى متقارباً من التحصيل الفقهي، وهما معاً أدارا إيران في الفترة الواقعة منذ رحيل الإمام الخميني عام 1989 وحتى عام 2005، وقادا مرحلة «إعادة البناء» لترميم ما تخرب في الحرب العراقية-الإيرانية وتحسين علاقات إيران الإقليمية والدولية. ولكن منذ انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد للمرة الأولى 2005، متغلباً على منافسيه وضمنهم رفسنجاني، بدا أن هذه العلاقة التاريخية بين الرجلين قد اهتزت. يشبه رفسنجاني «سيزيف» في الأسطورة الإغريقية، يصعد الجبل حاملاً صخرة كبيرة وما إن يقترب من القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى أسفل من جديد، فيعود مرة أخرى ليحملها صاعداً الجبل ويتكرر الأمر، فيتكرر الهبوط والصعود في مشهد أزلي. وفي الوقت الذي توقع فيه كثيرون نهاية لدور رفسنجاني a فقد عاد الأخير بدأب وإصرار إلى بؤرة المشهد السياسي الإيراني إبان انتخابه لرئاسة «مجلس الخبراء» ربيع العام الحالي 2009. يتهمه خصومه بأنه يسعى وراء مصالحه ولا يبتغي مصلحة الثورة، ولكن السياسي الواقعي المخضرم لم يرفع يوماً الشعارات الثورية الرنانة، بل كان دوماً ممسكاً بالخيوط من خلف الستار وواعياً للتوازنات والتشابكات، وهو الأمر الذي مكَّنه على الدوام من التدخل في اللحظات الحاسمة والمصيرية للنظام والثورة.صوب رفسنجاني سهامه في خطبة الجمعة ناحية الرئيس الإيراني نجاد والقوى الداعمة له، وهو هنا كان أشبه بجراح ماهر، ضربة مشرطه سريعة وحادة... لا تزيد ولا تنقص في العمق توخياً لإحداث التأثير المطلوب. رفسنجاني ليس معارضاً لنظام جمهورية إيران الإسلامية، بل له مصالح متشابكة في قلب هذا النظام. ورفسنجاني الجراح دخل خطبة الجمعة وفي الخلفية من تفكيره ضرورة التوفيق بين مصالح متعارضة، فهو عاتب على المرشد دعمه لنجاد ولكنه ليس في حالة عداء مع المرشد. يقول مقتضى الخطبة إن رفسنجاني دعَّم موسوي وكروبي، ولكنه لم يعلن مبايعة أي منهما وأحجم عن الدخول في الجبهة التي أعلنا تشكيلها مع الرئيس السابق خاتمي، بل انه أطلق رسالة أساسية في اتجاههما مفادها أن طريق الصفقات الكبرى مع رأس النظام وقلبه الصلب تأتي عبره هو شخصياً وليس عبر أي شخصية أخرى. هكذا يمكن تلخيص الهدف الأساسي من خطبة نجاد: رسم حدود ملعب المناورات السياسية في إيران من جديد، بحيث وضعته الخطبة في الوسط بين المعسكرين المتقابلين. يقضي منطق الأمور أن تقسيم الأدوار الجديد سيصب في أغلب الحالات ضد أحمدي نجاد، لأن تبلور ثلاثة مواقع للخريطة السياسية واحد موالي له، وواحد معارض، والأخير وسطي يعارضه أيضاً سيساهم في سحب المزيد من القوة المعنوية لمنصب رئيس الجمهورية. يعرف رفسنجاني أن الرئيس أحمدي نجاد هو الوحيد الذي خرجت مظاهرات تعارض فوزه بالانتخابات في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية، ويعرف رفسنجاني أيضاً أن قدرة التيار الإصلاحي على التأثير في التوازنات العليا للنظام محدودة، بل وحتى محدودة جداً بالرغم من جماهيرية هذا التيار.يعرف ثعلب الثورة الإيرانية أن أهمية الرئيس أحمدي نجاد في توازنات إيران الحالية تنبع أساساً من القوى الدولية والاجتماعية الداعمة له، وليس بالضرورة في القوى الشعبية المؤيدة له، حتى وهي حاضرة وموجودة بالفعل بسبب محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية في جمهورية إيران الإسلامية. ولذلك فقد صوبت مقترحات رفسنجاني على جعل أحمدي نجاد يدفع ثمناً سياسياً لقاء تخفيف الأزمة من إطلاق معتقلين وحوار، وهو بهذا يريد انتزاع ثمن سياسي من أحمدي نجاد بحيث يمنعه من الفوز سياسياً بالمعركة الرئاسية، التي فاز بها حسابياً وإحصائياً وفقاً لأرقام وزارة الداخلية الإيرانية. قد يبدو طلب رفسنجاني بسيطاً وبديهياً أي الإفراج عن المعتقلين، ولكن منطق التجاذب في تيارات إيران السياسية يبدو مختلفاً بعض الشئ، لأن هذا المطلب سيكون بداية القائمة وليس نهايتها، بمعنى آخر يحاول رفسنجاني وضع نجاد على مقعد الاتهام وبحيث يصبح جزءاً من المشكلة وليس الحل. أعاد الشيخ رفسنجاني الاعتبار لمشرط الجراح الذي طالما أجرى به العمليات الدقيقة دون أن يحدث مضاعفات خطيرة على النظام، بسبب مهارته وفراسته في التكهن بالآثار الجانبية لما يقوم به. وجه الأهمية في ما يقوم رفسنجاني به، والطريق المتعرج الذي يسلكه، أن تأثيرات ما يحدثه مشرطه تنعكس فوراً على تحالفات وتوازنات النخبة السياسية الإيرانية. قلائل في الشرق الأوسط يستطيعون أداء ما يمكن لثعلب الثورة الإيرانية أن يقوم به، وهذه حقيقة من حقائق الحياة السياسية في إيران أعادت خطبة الجمعة الأخيرة التذكير بها.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية- القاهرة.
مقالات
رفسنجاني و مشرط الجراح !
23-07-2009