تجربة لبنان في العقدين الماضيين، التي شهدت الوصاية وتهميش المسيحيين، وتجربة «حزب الله» التي تنشئ مجتمعاً منفصلاً بالكامل عن «الفضاء المشترك» اللبناني، وتطورات المنطقة من أفغانستان إلى العراق تجعل أفكاراً مثل «الحياد» و»اللامركزية» جديرة بالنقاش.

Ad

لا نعلم كيف قرأ النائب وليد جنبلاط «خطاب» النائب سامي الجميِّل، ولا ندري هل استشعر فيه خطورة تعيدنا إلى زمن الحرب الأهلية وتقاتُل الطوائف، أم توجّس منه ريبةً وخشي أن يحرك المياه الآسنة في مستنقع السياسة اللبنانية فيطرح تحدياتٍ لا أحد في وارد التصدي لها راهناً؟

قد يكون كل ذلك مجتمعاً، فالنائب الشاب يتحدّث لغة مختلفة، فلا هو يشبه حزب الكتائب الذي اعتاد البيت الجنبلاطي التعاون أو التقاتل معه، ولا هو رقم متسلسل في «14 آذار» المعروفة الثوابت والتي تشهر في وجه الجميع «اتفاق الطائف» بوصفه ضمانةً للمسيحيين ولبنان.

ربما كان النائب جنبلاط يبحث عن خصمٍ سهل بين حلفائه يمكن التصويب عليه لتوجيه رسائل الى الرئيس الجميِّل، شريكه في «وثيقة المختارة»، أو وجد الظرف ملائماً على أعتاب تشكيل الحكومة والبحث في الحصص والأسماء. فجنبلاط يوزع انتقاداته في هذه المرحلة في أكثر من اتجاه ويبعث على سلة من التفسيرات. فهو لن يشارك في الحكومة إذا وردت في بيانها كلمة «خصخصة»، وهو يرى في «لبنان أولاً» شعاراً انعزالياً يناقض فضاء العروبة الرحب وهاجس تحرير فلسطين. لكن ما القصة مع الشيخ سامي؟ وهل كان كلامه يستحق، من زعيم الطائفة الدرزية ورئيس اللقاء الديمقراطي، تنديداً يرفع النائب الجديد إلى ندية مبكرة مع زعيمٍ راسخ ويسلط الضوء على طروحات الشاب الذي أنضجته معركة الانتخابات؟

يصعب على المواطن أو المراقب الذي اعتاد فكرة الدفاع عن لبنان «دستور 1943» ثم «دستور الطائف» أن يبلغ طروحات سامي الجميِّل التي تنحو في نهاية الأمر نحو لامركزية تهزّ العقل الوحدوي الجامد، العربي منه والكياني اللبناني، لكن لا يمكن لكلامه الحامل معاني جديدة في ظروف متغيرة أن يمر مرور الكرام من غير تدقيقٍ ينتهي إلى قناعة بالحجج التي يوردها لإثبات نظرية الحياد، أو إلى رفض نهائي بحجة استحالة فصل لبنان عن أزمة المنطقة ومثالية المطالبة بجزيرةٍ معزولة عن أزمتها الجوهرية المتعلقة بقضية فلسطين.

واقع الأمر أن ما يقوله سامي الجميِّل ليس مقطوعاً عن تاريخ لبنان، الذي تمتع جبل لبنان فيه بوضعٍ خاص في ظل العثمانيين، وشهد نقاشاً جدياً في فترة الانتداب بين المطالبين بحمايةٍ دولية تؤمن حياده رغم انتمائه العربي، والمصرّين على ربط مصيره بعمقه الطبيعي. وإذا كان ما يقوله هو صيغة ملطَّفة ابتكرها بعدما تخلى عن «لبناننا» وصنع تسويةً مع عقيدة الكتائب الوحدوية، فإن ما تتضمنه تلك الصيغة جديرة بالنظر وليس بالتكفير، وحقّ بديهي يستطيع أي مواطن التعبير عنه بلا تخوين. والحال أنّ الهجمات على سامي الجميِّل في هذا الإطار تتقاطع مع ما تعرّض له جاد المالح من هجومٍ عنصري، إذ إن جوهرها المنع والإلغاء وتحويل صاحب الفكرة إلى خصمٍ شيطاني يُرمى بـ»عيب» الكيانية تمهيدًا لوصمه بـ» التقسيمي».

تحتاج أفكار سامي الجميِّل إلى مزيد من التعميق، فبين تجربة «لبناننا» والتعاطف مع العصبية العونية مزيج غير مريح لم تشربه الكتائب بعد، وربما احتاج إلى بعض الماء لتخفيف نسبة «الأسيد» فيه. لكن حق الجميِّل في طرح الأسئلة والأفكار مقدس بالتأكيد ولا يجوز لأي كان ممارسة الترهيب الفكري ضده تحت ذريعة أنه غير مقتنع بنظرية «الانصهار الوطني». فتجربة العقدين الماضيين التي شهدت الوصاية وتهميش المسيحيين، وتجربة «حزب الله» التي تنشئ مجتمعاً منفصلاً بالكامل عن «الفضاء المشترك» اللبناني وتطورات المنطقة من أفغانستان إلى العراق تجعل أفكاراً مثل «الحياد» و»اللامركزية» جديرة بالنقاش، وبدل أن يكون سامي الجميل خارجاً عن سرب الثوابت والتكاذب العام يمكن أن يكون «علامةً فارقةً» تستحق الاهتمام.