من يتابع المطبوعات الغربية يلاحظ المساحة التي تعطيها المجلات الثقافية لكتب الروائي الإسرائيلي عاموس عوز المرشح لجائزة {نوبل للآداب} وصاحب المواقف السياسية الملتبسة، وهذه المساحة تجعل كثيراً من الكتاب العرب ينظرون إليه بعين الريبة والقول إن جنسيته الإسرائيلية تجعله مدار اهتمام الأوروبيين والغربيين...

عاموس عوز {الطاحش} في عالم الرواية، لم يعد يشغل الأوروبيين فحسب، بل أيضاً خصومه في العالم العربي، والحال أن الكثير من الكتاب العرب يحاسبونه على مواقفه السياسية ويساريته باعتبار أن كل يساري في نظرهم يجب أن يكون من {جنس الملائكة}، وبعضهم يعتبر أنه إذا انتمى عوز الى حركة {السلام الآن} سيكون موقفه مناصراً للقضية الفلسطينية. لم يفكر هؤلاء لحظة بأن الروائي الإسرائيلي هو أولاً وأخيراً ابن اسرائيل ولا يعمل إلا في إطار مصلحة كيانه، وانتظار أن يكون هذا الإسرائيلي مناصراً للقضية الفلسطينية هراء في هراء ووهم في وهم في منطقة تعيش {حروب الذاكرات}.

Ad

سيشعر عاموس عوز بالسعادة لأن الكثير من الكتاب العرب شغلتهم روايته {أسطورة عن الحب والظلام}، الصادرة مترجمة عن {دار الجمل}، سيشعر بأنه سجل هدفاً في مرماهم الذي يبدو كأنه من دون حارس، لكن لا ندري ما هو شعور بعض الكتاب العرب الذي وظّف مساحات شاسعة من منابره لـ{صد} ترجمة رواية عوز، وكتب عنها أكثر مما كتب عن أي رواية عربية جديرة بالاحترام. فجأة نُشرت مقالات طويلة في الصحف {المقاومة} و{الممانعة}، أو التي تنادي بهامش للسلام، تتحدث عن {شبح} أسمه عاموس عوز.

قرأنا عناوين عن عوز مثل: {كيف نقرأ قاتلنا؟}، {داعية السلام} الذي أيّد كل حروب إسرائـيل}... {هيام الليبراليّين العرب بإسرائيل}... {دفاعاً عن الترجمة… بالمطلق}، {حققت أول ترجمة عربية لرواية {أسطورة عن الحب والظلام} للمؤلف الإسرائيلي عاموس عوز مبيعات كبيرة مؤخراً في معرض الكتاب بالعاصمة السعودية}... مشهد {الرواية العاموزية} في العالم العربي يجعلنا نرى الأقلام بين صنفين، أو حدين: صنف من أقلام أيديولوجية مقيتة لا تملك إلا لغة التخوين، وتعمل على مبدأ المكارثية الأميركية وتفكر باتجاه واحد، وصنف آخر يتصرف بسذاجة وكأن {اليسار الإسرائيلي} من {جنس الملائكة}، وينظر إلى الأمور بخفة (وجه الإيديولوجيا المقيتة الآخر)، ويقلل من أهمية كل شيء، ويجد ثغرة تافهة لمحاربة أقطاب ما يسمى {ثقافة الممانعة} أو {مناهضة التطبيع} وسائر الكليشيهات التي تخدم في جانب منها إسرائيل.

لم يتوقف شبح عوز عند المنابر الثقافية العربية، بل انتقل الى أروقة مجموعات الـ{فايسبوك}، ويشعر المتابع بحماسة لمواقف أراء الشبان بهذا الشبح، فقد نشأت مجموعة {فايسبوكية} بعنوان {ترجمة الأدب الإسرائيلي حرية أم تطبيع؟}. لا أحد يدري ما الرابط بين {الحرية} و{التطبيع}، ثمة خلط للحابل بالنابل في قضيتين منفصلتين. بالتالي، ثمة جدل ومعمعة في موضوع من الصعب التفاهم عليه، تماماً كقضية {الشهداء} في الحرب الأهلية اللبنانية.

معمعة

ما نستنبطه من معمعة الـ{فايسبوك} حول عوز أنّ ثمة تعثّراً في تعريف الحرية والتطبيع والرواية والكتابة، وميلاً إلى إطلاق مواقف اعتباطية رجراجة مسلية وتافهة ربما، ومع ذلك تجعل زائر الإنترنت يعرف طرق تفكير شبان لديهم مواقف مسبقة من كل شيء، والشعارات بالنسبة إليهم تسبق المعرفة، والذاكرة وكل شيء. إنهم أنصار {ثقافة التابو} أولاً، ومن منافحي المكارثية ثانياً.

لنقل إن الجدل العربي حول رواية عوز ساهم في ترويج هذه الرواية (الصهيوينة) {غير البريئة}، تماماً كما تروّج الفتاوى للكثير من الكتب السخيفة، وكما تروج الرقابة لمطبوعات غير جديرة بالنشر. سيقرأ رواية عوز لمجرد الكتابات الكثيرة عنها بشكل إيجابي أو سلبي، وبعيداً عن أهمية الرواية وتقنيتها.

لا أخفي أنني حصلت على الرواية قبل مدة، ووضعتها في زاوية من المكتبة مثل كتب كثيرة، ولم أتحمس إلى مطالعتها بسبب حجمها الكبير، ولم اهتم لمؤلفها وإن كان صهيونياً أو إسرائيلياً، لكن {الجدل العربي (اللبناني تحديداً) حولها حفزني للعودة إليها من باب {الفضول} لمعرفة فحواها، والأمر نفسه حصل مع كثير من أصدقاء بدأوا يبحثون عن نسخة لمعرفة من هو عوز، خصوصاً أن بعض المكتبات اللبنانية (مثل الفرات) عرض الكتاب، ثم تراجع عن ذلك خشية حدوث رد فعل من الجماعات المناهضة للتطبيع. ويقال إن صاحب الفرات ينتمي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، لم يعرف أن معظم القراء في شارع الحمرا يقرأ بالإنكليزية والعربية أو قد يقرأ الكتاب عبر الإنترنت، ولم تعد تنفع ممارسة الرقابة؟!

السؤال، هل لدى عوز هذه الحنكة ليشغل القارئ العربي أو الكتاب العرب؟ أم أن القضية تتعلّق بهشاشة الثقافة العربية وسذاجة بعض الكتاب الذين يبحثون عن القضايا {الشعبوية} و{اليسارية}، ويتحدثون عن كاتب وكأنهم يكتشفون الصهيونية للمرة الأولى في تاريخهم!

لنقل في البداية إن كتاب عوز مذكرات شخصية تأخذ القراء الى طفولة الكاتب منذ اللحظة التي انتحرت فيها والدته عندما كان عمره 15 عاماً، وعندما شب في إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة من الانتداب البريطاني في فلسطين. إنها مزيج من الكوميديا والتراجيديا لتقديم صورة حميمية لصبي يدخل في طور البلوغ وصورة لدولة وصراع عمره 60 عاماً. وقال عوز: {أسطورة عن الحب والظلام هي سيرة ذاتية تكشف قصة أسرتي، لكنها أيضاً قصة ميلاد إسرائيل. من المهم لي بشكل خاص أن تترجم هذه القصة الآن الى العربية وتنشر وتوزع في العالم العربي.}

هذا مختصر رواية عوز، لكن مقدمة ممول الرواية المحامي إلياس خوري تبين أن ثمة {خبثاً} في الرواية، ولعباً على وتر ما، فليست القضية في أن عوز يساري أو ما شابه، بل في حروب الذاكرة، إذ يكتب عوز وكأنه يلغي الذاكرة الفلسطينية من الوجود، وربما من بين الكتابات التي وصفت بشكل دقيق جوهر تفكير عوز ما كتبه الروائي اللبناني إلياس خوري بعيداً عن المنطق الشعبوي والدوغمائي، إذ كتب في زاويته الأسبوعية في جريدة {القدس العربي}: {ترجمة الأدب العبري الى العربية ضرورة ملحة، ليس من أجل أن نتعرّف الى العدو، بل من أجل أن نتواصل على المستوى الإنساني العميق. فالأدب يستطيع أن ينقلنا الى مناخ معرفة إنسانية تتجاوز الكليشيهات والافتراضات المسبقة}. يضيف: {فرحنا حين قام الروائي الفلسطيني توفيق فياض بترجمة رواية {خربة خزعة} الى العربية، كان كبيراً، وقمنا بنشر الرواية كاملة في مجلة {شؤون فلسطينية}، وكانت ترجمة حسن خضر لرواية دايفيد غروسمان {ابتسامة الحمل}، حدثاً أدبياً، على رغم أنها لم تقرأ على نطاق واسع في العالم العربي}.

يتابع خوري: {الحقيقة أنني أفضل ألا يتكلم عوز ويهوشع وأمثالهما عن الفلسطينيين، فعندما ظهر الفلسطيني في رواية عوز الأولى {ميخائيل خاصتي} كان على شكل التوأمين خليل وعزيز اللذين يغتصبان بطلة الرواية حنة في تهويماتها، أو على شكل بدوي تتمنى الفتاة اليهودية في الكيبوتز أن يغتصبها كما في قصة {البدوي والأفعى}، أو على شكل الفلسطيني المقطوع اللسان في قصة يهوشع {ازاء الغابات}. الفلسطيني لا يحضر الا كشبح، لأن الإيديولوجية الصهيونية تحجب الرؤيا. هذا الواقع حريّ بأن يدفع الكتاب الإسرائيليين الى قليل من التواضع. لكن السيد عوز يعلّق على ترجمة كتابه عبر إعطاء الضحية الفلسطينية درسا في الأخلاق}.

تحتاج رواية عوز الى قراءة متأنية لمعرفة أسرار الميديا الروائية، التي تذكرنا بشعار قاله ستالين في زمانه {مقتل إنسان مأساة، أما مقتل مليون فمسألة عدد}.

عرف بعض القرّاء العرب كتابات عوز، بعد مطالعتها بالإنكليزية أو الفرنسية أو بلغة أوروبية أخرى. وكان الراحل غالب هلسا وضع قبل أكثر من 15 عاماً كتاباً عن هذا الروائي الإسرائيلي ذائع الصيت، ملخّصاً معظم رواياته عن الإنكليزية. وتُرجمت في مصر روايته {حنة وميخائيل}، لكنها لم تُنشر الا في شكل محدود. كذلك تردّد اسم عوز في القاهرة الصيف الماضي، حيث أثار جدلاً في الأوساط الأدبية حول إمكان نشر، أو عدم نشر كتبه، تماماً كالجدل الذي أحدثته قصائد محمود درويش عندما ترجمت الى العبرية، أو عندما دُرِّست في المدارس العبرية.

ختاماً، من يتأمل كتابات بعض الكتاب الذين هاجموا {تعريب} رواية عوز يكتشف أن كتاباتهم عن الواقع العربي تشبه كتابات عاموس، فهم يمارسون فعل الإيديولوجيا التي تحجب الرؤيا، إذ ثمة {الإيديولوجيا الصهيونية} وثمة {الإيديولوجيا القومية}، وبينهما تضيع الرؤية، أو لنقل إن عوز وخصومه {طنجرة وغطاها} وإن اختلف الخطاب.