حسنا فعل الدكتور مصطفى كامل السيد، المعد الرئيس لتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 والمعنون «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية»، عندما أعلن عدم مسؤوليته عن الصيغة النهائية للتقرير بعد أن أقدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) دون استشارته على إدخال تعديلات جذرية على مسودة التقرير طالت بالحذف والاختزال فصولاً تناولت صراعات الهوية، وتداعيات الاحتلال الخارجي لبعض الدول العربية كالعراق وفلسطين والجولان السورية والصومال على أمن الإنسان هناك، ونواقص الأمن الشخصي للمواطنين العرب في ظل الغياب الكامل أو شبه الكامل للديمقراطية وحقوق الإنسان. تشرفت خلال دراسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة بالتعلم على الدكتور السيد وجمعتني في ما بعد، ومازالت، بأستاذي الفاضل صداقة عميقة تخطت الاهتمام الأكاديمي المشترك إلى مساحات أرحب كانت لي طوال الأعوام الماضية زاداً إنسانياً وفكرياً رائعاً. يتميز الدكتور السيد، وهو كأستاذ ذائع الصيت عربياً ودولياً وصاحب العديد من الإسهامات الأكاديمية الرصينة حول التنمية والديمقراطية والتحرر الوطني في العالم العربي في غنى عن شهادتي المتواضعة، بالاستقامة الفكرية والدأب البحثي والالتزام الذي لا يعرف الكلل بشؤون وهموم العرب، لذا لا يساورني أي شك في أن إعلانه التبرؤ من الصيغة النهائية للتقرير إنما يدلل على وقوع تجاوزات كبرى من جانب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي فضَّل موظفوه على ما يبدو الاستجابة لضغوط بعض الدول العربية التي اعترضت على تناول صراعات الهوية والبعض الآخر المتحسس دوماً من طرح قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ولم يرغبوا في وضع الولايات المتحدة- أحد الممولين الرئيسيين للبرنامج الإنمائي- وإسرائيل أمام مسؤولياتهما عن ممارسات الاحتلال في العراق وفلسطين وغيرهما.وواقع الأمر أن الخلاف الدائر اليوم بين الدكتور السيد وفريقه البحثي من جانب وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على الجانب الآخر، انما دار شيء منه في عام 2004 بين الفريق البحثي برئاسة الدكتور نادر فرجاني، الذي أعد آنذاك التقرير السنوي الرابع للتنمية الإنسانية العربية «نحو تعزيز الحرية في العالم العربي»، وموظفي البرنامج الإنمائي بسبب الانتقادات الحادة التي تضمنها التقرير لممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والولايات المتحدة في العراق وتداعياتها على مستوى الحريات في العالم العربي، ومورست ضغوط على الفريق البحثي لإجراء تعديلات تحريرية. هو إذن خلاف متواتر بين الباحثين العرب والبرنامج الإنمائي هذا الذي خرج مرة أخرى للرأي العام بعد تسجيل الدكتور السيد لموقفه الشجاع وتتحمل وزره دول خارجية وعربية توظف نفوذها السياسي والمالي للتأثير في محتوى تقارير التنمية الإنسانية العربية وحصيلته الرئيسية، هي إثارة العديد من علامات الاستفهام حول مصداقية واستقلالية الصيغ النهائية للتقارير.على الرغم من ذلك، لا يسع قارئ تقرير «تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية»، وهو منشور باللغتين العربية والإنكليزية على الموقع الإلكتروني للبرنامج الإنمائي http://arabstates.undp.org، إلا أن يؤكد أهمية المعلومات وقيمة التحليل الذي يحويه وأن ينصح المهتمين بين المواطنين العرب بمطالعته. يستند التقرير إلى مقاربة شاملة للأمن الإنساني لا تقصره على المفهوم التقليدي المرتبط بالدول وأمنها، بل تتجاوزه إلى معالجة الجوانب المختلفة للتنمية المستدامة والحكم الرشيد وحقوق الإنسان. تحليلياً، يقع التقرير في محاور سبعة، يتناول أولها التحديات التي تواجه المواطن في البلدان العربية بفعل استمرار ارتفاع معدلات الزيادة السكانية مع تقلص الموارد الطبيعية وتهالك البنية التحتية وتنامي مشكلات بيئية كنضوب وشح مصادر المياه السطحية والجوفية. أما المحور الثاني فيعالج إشكاليات غياب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ويركز على النواقص المتنوعة التي تعانيها البلدان العربية في مجالات الحكم الرشيد، والمشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام، والعدالة في توزيع الثروة بين المواطنين، واحترام التنوع الثقافي، والتزام المساواة بين النساء والرجال، وضمان ممارسة الحقوق السياسية، والتمتع بالحريات المدنية للمواطنين. هنا يشير التقرير إلى استمرار الحظر المفروض على تكوين الأحزاب السياسية في بعض البلدان العربية والقيود المفروضة عليها وعلى منظمات المجتمع المدني في البعض الآخر، كما ينتقد تعويل الحكومات على قوانين الطوارئ لإعاقة الحياة السياسية والحيلولة دون استقلال السلطات القضائية والتشريعية، والتورط في ممارسات تنتهك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. ويتبع محور التقرير الثالث المسار النقدي نفسه بمناقشة هشاشة الأمن الشخصي للفئات الضعيفة بين مواطني البلدان العربية، خصوصاً النساء والأطفال. يورد التقرير بيانات إحصائية مفجعة تظهر أن أكثر من 30 في المئة من النساء في مصر ولبنان واليمن والجزائر والأراضي الفلسطينية المحتلة يتعرضن للعنف الجسدي، بينما تعاني النساء في بلدان كاليمن والصومال وموريتانيا وجزر القمر ارتفاع معدلات الزواج المبكر (ما دون 18 عاماً) ويواجهن مع الأطفال ظواهر خطيرة كالاتجار بالبشر والاعتداءات الجنسية والعمل بالإكراه وغيرها.تتناول المحاور الرابع والخامس والسادس معضلات التنمية المستدامة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها نسب البطالة والفقر والجوع وسوء التغذية المرتفعة وتحديات الأمن الصحي. يبين التقرير على سبيل المثال أن نسبة البطالة في عموم العالم العربي في عام 2005 كانت 14.4 في المئة، بينما جاء متوسط البطالة العالمي دون 7 في المئة. يذكر أيضاً، ووفقاً لبيانات عام 2005 واستناداً إلى المؤشرات الدولية التي تحدد خط فقر الدخل بما دون دولارين في الشهر، أن 34.6 مليون مواطن عربي يعانون الفقر المدقع، في حين يعيش 65 مليون عربي على خط الفقر، ومعظم المجموعتين من قاطني البلدان العربية خارج منطقة دول مجلس التعاون الخليجي. كما يطالع قارئ التقرير معلومات مفزعة عن أثر الجوع وسوء التغذية في الأطفال والنساء، وكذلك عن ضعف الإنفاق الصحي في البلدان العربية (لم يتجاوز في عام 2005 وفي أفضل الحالات حد 12 في المئة من الموازنات الحكومية) والانتشار المتسارع- وإن ظل دون المعدلات العالمية- لأمراض كالإيدز بين المواطنين العرب وتفاقم نتائجها مع محدودية الخدمات الصحية وافتقادها الجودة. هنا يورد التقرير أن أكثر من 31600 بالغ وطفل قضوا في البلدان العربية بسبب الإيدز. أخيرا، ينظر المحور السابع في حصاد الاحتلال والتدخل العسكري في العراق وفلسطين والصومال على أمن الإنسان، مشيراً إلى الارتفاع غير المسبوق في أعداد الوفيات في العراق بعد الغزو الأميركي في 2003 والتدهور العام في الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية للعراقيين بعد الغزو، وكذلك في فلسطين المحتلة والصومال.مجدداً، وعلى الرغم من علامات الاستفهام التي أثارها محقاً الدكتور مصطفى كامل السيد حول الصيغة النهائية وشبهة التسييس واستغلال النفوذ الكامنة وراء حذف واختزال بعض فصول المسودة التي سلمت لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أدعو القراء المهتمين إلى مطالعة تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009، والاستفادة من المعلومات المهمة التي يحويها، والتحليل القيم الذي يسلط الضوء بصورة منظمة ومقارنة على بعض تحديات أمن الإنسان في عالمنا.* باحث أول- مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط
مقالات
تقرير التنمية الانسانية العربية 2009
26-07-2009