مادياً أم لفظياً، العنف نخبوي دوماً، يمكن أن تأتلف حوله فقط مجموعات صغيرة أو زمر منعزلة عن محيطها الأوسع، وأول ما يبعد العنف عن المشاركة في العمل العام النساء، ينزوين في البيوت حيث العنف مستشرٍ، ومثلهن يتهمش الأطفال والمسنون والضعفاء والمسالمون والمثقفون، بينما يتصدر المشهد العام الأقوى عضلات أو سلاحاً أو عصبية، هذا حتى حين يكون العنف كلامياً، إذ يقترن هذا الضرب من العنف عموماً بقاموس وسلوكية ذكورية عدوانية ومزدرية للمرأة. 

Ad

وبينما قد يكون العنف اللفظي ضد خصم متصور مشبعاً نفسياً لممارسيه، فإن الإقامة عليه تفضي إلى العزلة وانقطاع التأثير الاجتماعي، هذا حتى حين يكون العنف موجهاً ضد أوضاع وسلطات جائرة وعنيفة هي نفسها، ربما لأن المثابرة على المواقف العنيفة تتوافق مع الثبات على رؤية جانب من الواقع فحسب (هو الأسوأ)، وكلما ضاقت مساحة ما نرى من الواقع، كان من المرجح لتوجهنا السياسي العملي أن يكون فئوياً ونخبوياً، ولسيكولوجيتنا أن تكون منقبضة وعدوانية. لذلك فإن توسيع مساحة المرئي من الواقع ليس فعلاً معرفياً مرغوباً وإنما هو كذلك ممارسة ديمقراطية محررة سياسياً وسيكولوجياً. باختصار، مساحة أوسع من الواقع تعني صدوراً أكثر انشراحاً حيال العالم، أقل انقياداً للعنف بالتالي. 

وما ينطبق على العنف في أي من شكليه ينطبق أيضا على التطرف، يمتنع تكون منظمة أو مجموعة متطرفة وجماهيرية في الوقت نفسه، ربما إلا في أوقات الأزمة الاجتماعية والنفسية والسياسية على نحو ما عرفت ألمانيا حين صعد النازيون إلى الحكم فيها عام 1933. في غير أوقات كهذه، يقترن التطرف بالهامشية والانعزال. 

وعلى نحو ما يسارع عموم الناس إلى الهرب من ميدان يجرى تبادل إطلاق الرصاص فيه، يطرد العنف والتطرف الجمهور العام من الملعب السياسي، وهو تالياً ذو مفعول مضاد للديمقراطية بعمق. 

وللانبساط الاجتماعي، أعني بهذا حضور الجنسين وحضور مختلف الأجيال في الحياة العامة، أي ظهور أوسع طيف اجتماعي، وقد يساغ لنا الاستدلال من سعة الطيف الاجتماعي المرئي على منسوب العنف في المجتمع المعني. طيف أوسع، إذن عنف أقل. ولا ريب مثلاً أن انزواء النساء النسبي والمتفاوت في مجتمعاتنا، لكن الأكيد، يتصل بالارتفاع النسبي لمنسوب للعنف فيها، سواء كان عنفاً سائلاً أم بنيوياً، سياسياً أم اجتماعياً. 

وكلما تدهور الأمن في مجتمع (العراق، غزة...) ازداد انسحاب النساء، وانحسر ظهور الناس عامة مكانياً وزمانياً: يظهرون نهاراً فقط، وفي الأماكن الأقل خطراً والأقرب إلى ملاذاتهم الآمنة، بينما تخلو المدن ليلاً كأنها مدن أشباح على ما شهدت شخصياً في مدنية حلب السورية عامي 1979 و1980، أيام الصراع العنيف بين النظام والإسلاميين. وإذ يحوج انتشار العنف المرأة إلى حماة أقوياء فإنه يرسخ تبعيتها ويضعف فرص استقلالها وتحررها. 

ومن شأن تبيِّن العلاقة بين العنف والنخبوية أن يمكننا من نقد مختلف للإرهاب، يندر أن يقال إن الإرهاب نخبوي، لكنه كذلك بالفعل، لا يكفي أن يكون ممارسوه إسلاميين، يعتنقون ما يفترض أنها عقيدة الجمهور الأوسع، حتى يكف الإرهاب عن كونه نخبوياً ومولداً للدكتاتورية. وبالفعل تعرض المنظمات العنفية الإسلامية احتقاراً للحياة العادية للناس وانعزالاً نخبوياً ومترفعاً حيال العاديين من الناس، وميل أشدها عنفية في عزل النساء والأطفال والمسنين، واحتقارها للمثقفين الدنيويين، أمور معلومة. 

في بالنا هنا قضية فلسطين بخاصة، العنف المسلح المنتشر يحيد أكثرية الفلسطينيين عن النضال الوطني الذي يعنيهم جميعا، وهو ما ينال من صفته التحررية أو ما يفك العروة الوثقى المرغوبة بين النضال من أجل حرية الوطن وبين مشاركة المواطنين الديمقراطية. هنا المشكلة أولا وأساسا. 

لكن ينطبق هذا الكلام على منظمات جعلت من الإرهاب منهجها الحصري في السياسة، مثل منظمة «القاعدة». هنا النخبوية القصوى، والانعزال الأقصى عن الجمهور الذي يفترض أن هذه المنظمة تحامي عنه، وهنا لا مكان للنساء، لا يظهرن أبداً، ويتجسد الانعزال في مكافئ «مادي»، يتمثل في تواري قادة «القاعدة» وفي السرية القصوى لخلاياها. والواقع أن السرية من لوازم النضال العنفي، وهي أحد مصادر الانعزال والنخبوية، هذا لأنها ليست «معاشاً طبيعياً» إن حاكينا لغة ابن خلدون في سياق مختلف، فلا يمكن أن تكون قاعدة حياة عامة أو قابلة للتعميم، إنها حياة «خاصة» واستثنائية، يحصل كثيراً أن تدوم كثيراً إلى درجة أن يألفها المناضلون أو المقاومون السريون، فتغذي لديهم شعوراً بالانفصال عن بيئاتهم الاجتماعية والتعالي عليها، ما يجعل عملهم عقيماً، فإن نجحوا في قلب الأوضاع القائمة بطريقة ما، فسوف يكون حكمهم استبدادياً وقاسياً حتماً. 

ختاماً، إن قضايا العنف والتطرف والإرهاب والنخبوية والسرية هي قضايا سياسية لا تناقش بصورة مجردة، وبانفصال عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والتاريخية العيانية. وليس غرضنا هنا «الإفتاء» هنا بلا شرعية العنف في كل زمان ومكان، أو «تحريم» المقاومة السرية، ولا نصدر عن إيديولوجية لا عنفية راسخة. الغرض بالأحرى التنبه إلى معادلات مرجحة للنضال العنيف والعمل السري والتكتيكات الإرهابية وما إليهما، قد يضطر أفراد أو جماعات أو مجتمعات لمقاومة عنيفة جدا لأوضاع متطرفة عنيفة هي ذاتها، لكن فيما يكون القدر رؤوفاً بالأفراد والجماعات والمجتمعات إن جنبها هذه الاضطرارات إلى أقصى حد، ويكون رؤوفاً جزئياً أن أتاح لها قيادات حصيفة تمكنها من السيطرة على هذه الاضطرارات بدل الركون اليها وتحويلها إلى قيمة إيجابية، فإنه لا يكون إلا بالغ القسوة إن جعلها تسكن إلى اضطراراتها، فتجعل من الاستثناء نظاماً للحياة أو ثقافة، لعلنا، فلسطينيين وعرباً ومسلمين، ممن لم يرأف بهم القدر. 

* كاتب سوري