يبدو أنّ من المتعذّر إيجاد كلام معيّن يصلح تحديدًا للشّعر أو تعريفاً به. ومن هذا المنطلق تحتمل مقاربات الشعر التعريفيّة كثيراً من الأخذ والرّد، من «الكلام الموزون والمقفّى» إلى «الكلام المستقيل طوعًا من الوزن والقافية»، وإلى مجرّد «الكلام» كما هو حاصل لدى كثيرين يؤيّدون نصوصًا أكثر من عاديّة وينسبونها إلى الشّعر.

إذا كان الشّعر، كلاسيكيّاً، لا يتنازل ويمدّ على بساط القصيدة تفاصيل الحياة اليوميّة فإنّ الحداثة الشّعريّة العربيّة، شأنها شأن الحداثة الغربيّة، أخذت الواقع اليومي في الاعتبار، ونظرت إلى الأشياء والنشاطات الإنسانيّة البسيطة بخلفيّة متواضعة ـ إذا جاز الكلام ـ ودعت إلى قصيدتها شفرة الحلاقة، وسوائل الاستحمام، والحوار بين بائعة ثياب وزبون، وكلّ ما لا يمكن أن يقربه شاعر لم يعش ثورة القرن العشرين أو عاش خارجها ولم يفتح لها باب قصيدته...

Ad

في دراسة الباحث آدم يوسف «قصيدة التفاصيل اليوميّة في الشّعر الخليجي المعاصر»، يقارب نماذج شعريّة خليجيّة حديثة في ضوء علاقتها بالمعاش اليوميّ، راصدًا التحوّل الكبير الطارئ على بنية القصيدة العربيّة التي سلكت وجهة الحداثة ببراءة واستقالة من القصيدة العربيّة، الآخذة بالوزن والتقفية، سواء أكانت عموديّة أو قصيدة تفعيلة.

الشعر الغربي

في المقدّمة يعلن يوسف أنّ دراسته بشقّين: نظريّ وتطبيقيّ. ورمت إلى إظهار اليوميّ المرتبط بظاهرة قصيدة النثر وتأثير الشّعر الغربي المترجم. وميّز يوسف بين قصيدة الحياة اليوميّة وقصيدة التفاصيل، وذكر أنّ الدراسات التي تتناول قصيدة التفاصيل اليوميّة وردت في المجلات ذات الاهتمام الأدبي ولم تحضر في مؤلّفات تتفرّغ لها بالقدر الذي تستحقّ، والشعراء الذين تناولتهم الدراسة لم يعطوا حقّهم على مستوى حضورهم الإبداعي وأتت دراسة يوسف لتمنحهم بعض إنصاف.

رأى يوسف أن في ثمانينات القرن العشرين ظهورًا للحداثة العربيّة تجلّى بشعراء لجأوا إلى التكثيف المجازي واللغويّ مع الاستعانة بالرمز والأسطورة، وبموازاة هؤلاء ظهر جيل آخر من الشعراء الشباب الذين مالوا نحو السّرد «في تماذج واضح للأجناس الأدبيّة»، ومعهم ظهر مصطلح «قصيدة التفاصيل اليوميّة».

بحسب يوسف، ما يميّز قصيدة التفاصيل اليوميّة رؤيتها الخاصّة ونبرتها الإيقاعيّة الخافتة، وعدم اهتمامها بما يسمّى النقد الأدبيّ بـ «الصورة البيانيّة»، فهي نافذة جديدة على الحياة، وكأنّها بتبنّيها ما هو مُهْمَل شعريًّا تأتي بجديدها الشّعري، إضافة إلى ذبحها البقرات المقدّمة من حيث اختراقها المحرّمات بسخريتها من المجتمع وأساليب العيش فيه، وتمثيلاً لرؤية يوسف استشهد بكلام للشاعر الشاب علي الصافي: «أحبّ الناس / وأكره الموظّفين / لي قلب طيّب / طيّب وابن كلب».

ركّز يوسف في دراسته على أعمال لشعراء خليجيّين في العقدين الأخيرين من زمننا، أي بين عامي 1980 و2002 (تاريخ كتابه الدراسة)، وذلك لأنّ الباحث لم يجد قصيدة التفاصيل اليوميّة قبل العام 1979 وقد أسهم في وجودها الشاعر سعدي يوسف بترجمة عدد من قصائد الشاعر اليونانيّ يانيس ريتسوس. وقد اختار يوسف دول الخليج الستّ لما يجمعها من تاريخ وإرث ثقافي مشتركين ومتداخلين.

في الطريق إلى قصيدة التفاصيل اليوميّة توقّف الباحث الرصين والموضوعي آدم يوسف عند العقّاد، وتحديدًا مع ديوان «عابر سبيل»، ذي اللغة المتّصفة بالسهولة والعمق في آن واحد، والمحتضنة مفردات الحياة اليوميّة وما يشاهد عبر الطريق. وأشار إلى تأثّر العقّاد بالشاعر الإنكليزي «شللي»، محافظًا على خصوصيّته. وميزة «عابر سبيل» الالتزام بالهمّ الإنساني والاتجاه نحو المواضيع اليوميّة وخير مثال على ذلك قصيدته: «كواء الثياب في ليلة الأحد». ولفت الشاعر صلاح عبد الصبور الباحث بلغته الجديدة التي تجرّأت على اجتراح الجديد الشّعريّ ودكّ «حصون اللغة الشعريّة»، وما يلي بعضٌ مما جاء في قصيدة «الحزن» لعبد الصّبور: «... ورجعتُ بعد الظهر في جيبي قروش / فشربت شايًا في الطريق / ورتَقْتُ نعالي/ ولعبت بالنّرد الموزّع بين كفّي والصديق». ولم ينفِ يوسف تأثّر شارب الشاي في الطريق بالشعر الغربي، لا سيّما بالشاعر الإنكليزي ت.س. إليوت. واعتبره من أبرز الشعراء والمؤسّسين «لقصيدة التفاصيل اليوميّة في الشعر العربيّ المعاصر». أما خليجيًّا فقصيدة التفاصيل اليوميّة تأثّرت بالمدينة وما فيها من ازدحام بشريّ وأسلوب جديد من الحياة والتفكير، وبحنين الشعراء إلى الموروث الصحراوي وأسلوب حياة البادية. و»المدينة هي الصدمة الأولى التي شكّلت القصيدة الجديدة». والعوالم الشعريّة الحديثة تظهر من عناوين الشعر الخليجي المعاصر: «من يأمن اليابسة» لطالب المعمري- عمان، «رجل من الربع الخالي» لسيف الرحبي- عمان، «نقف ملطّخين بصحراء» لحمد الفقيه- السعوديّة، و{صحراء في السلال» لإبراهيم الملا- الإمارات...

سريالية

يلحظ يوسف بروز السرد في قصيدة التفاصيل اليوميّة من خلال حضور الزمان والمكان في النصّ الشعريّ، ما يخلق شيئًا من التناصّ بين القصيدة والنصّ الروائيّ. كذلك يرصد «المفارقة في صور متعدّدة»، غير أن هذه المفارقة توصل إلى نتيجة واحدة وهي موقف الإنسان الخليجي الساخر من الوجود وسير الأمور فيه، ولهذه المفارقة تأثير على حضور الصور السرياليّة واللغة اليوميّة المفضية إلى سرد التفاصيل وتكوين المشهد بمتناقضاته. فها هو الشاعر الإماراتي ثاني السويدي يقول في قصيدة رأس الخيمة: «في رأس الخيمة / يمكنك أن تصطاد سمكة / تسدّ بها جمع شعب بأكمله / بإمكانك أن تلمع / كأساور متماسكة في يدي متزوجة جديدة / بإمكانك أن تختار أمّك / فالشوارع لدينا مليئة بالأمّهات». وجدير بالذكر أن يوسف يعلّق على النصوص وينجز لها قراءة في ضوء عنوان دراسته متعقّبًا كلّ تحوّل، ومظهرًا كلّ جديد. وممّا رصده بالمقارنة والتحليل انحراف الأسلوب في قصيدة التفاصيل اليوميّة بتجاوزه وتجاهله سنن الكتابة الكلاسيكيّة و»إثارته مجموعة من المعاني الهامشيّة...» ويتجلّى هذا الانحراف في قصائد صلاح دبشة وسيف الرحبي، يقول دبشة: «أقدامنا المنهكة... / لماذا لا نحترمها مرّة / ونضعها فوق رؤوسنا». وفي مثل هذا الكلام انحراف أسلوبيّ يتمثّل بوضع الأشياء في غير موضعها، ويرى يوسف أنّ الجماليّة في ما ينتمي إلى هذا المنحى «تتأسّس على التقابل بين المقدّس والمدنّس»...

تطرّق يوسف إلى مرحلة ما بعد الحداثة مُوردًا أنّها ردّة فعل على فشل مشروع الحداثة. وإذا كانت الحداثة خرجت على المعايير السابقة وطرحت معاييرها فإن ما بعد الحداثة إقرار بغياب المعايير نتيجة غياب الأسس الثابتة، ورفض فكرة العالم المنسجم. وتوصّل يوسف إلى أن عصر ما بعد الحداثة يدعو إلى التّعدّد، ويتعارض مع النخبويّة، ويتّجه نحو العبثيّة، ويخفف من حضور العقلانيّة، ويستحضر الريف معيدًا الاعتبار للطبيعة ويلتزم بمهمّشي المجتمع...

في دراسته القيّمة «قصيدة التفاصيل اليوميّة في الشّعر الخليجي المعاصر» نجح آدم يوسف كباحث ودارس يتحلّى بالموضوعيّة والمعرفة على سعة اطّلاع، وقدّم جديدًا إلى خزانة الأدب العربي، داعيًا الأيام بتفاصيلها وأشيائها إلى الحضور، بلا أيّ إحراج، على شرفة القصيدة.

الدراسة صادرة عن دار مسعى في الكويت بالتعاون مع الدار العربية للعلوم ناشرون.