لا شاعر يعرف أيّ وجع سيكون الرّحِم الذي منه تمدّ عنقها القصيدة. وكم من وجع له من العين شلال دمع، ومن الصّدر مغارة ألف آخ وآخ، وليس له سبيل إلا الإقامة في بهاء القصيدة. وأجمل الشّعر ذاك الذي يجتمع فيه وجعُه والجمال وتكون كفّة الجمال راجحة، وأكثر الشّعر فقرًا ذاك الذي يبحث فيه الجمال عن الوجع فلا يجده فيغدو الجمال هزيلاً والمفردات بحاجة إلى قطيع نعاج يدفئها بلهاثه.أنطوني جعجع في جديده الشّعريّ «شال الغمام» يلتهب بين أصابعه قلم موصول بشرايين القلب، فلا كلمة تزور قصيدته إلا معتمرة وجعها، وعندها ما تقول على جمال وأناقة. ومن الإهداء: «إلى صغيرتي ماري ـ جوزيه ... معي مجد الله حين تربَّع إلهاً» يشعر القارئ أنّ في الإبحار الذي ينتظره رحيق ولدٍ يعادل حضور السّماء. ومن القصيدة الأولى «شال الغمام» يتيقّن القارئ من أنّ الشّاعر يفتح أشرعة قصائده بنَزَق مُجَذّفاً بما أوتي من فرح أبويّ في مياهٍ خريرُها ضحكة ولد، وتموّجاتها حَبْوُ ولد، وسَمَكها لُعبُ ولد... «وتكبُرين حلاً والدّمع من عنب / والخدُّ نيسانُ، والرَّيحانُ في عُلَبِ»، هكذا يرى جعجع وحيدته جمالٌ ينمو ويزداد مع كلّ طلعة شمس، والدمعُ الطفوليّ بعضٌ من خمر يسيل من عنب، فَعَيْنا طفلته مصدر خَدَر ونشوة وهُما يعلنان ماءَهما البريء، والخدُّ نيسان عمره هو، والعَبَقُ كُلُّهُ في علب لا يمكن إلا أن تكون على الهدايا وبعضٌ من عمر الشاعر مع كلّ هديّة. وقد يكون البدء من الفصل الثاني للديوان «نقشٌ على ضلوع السماء» أجدى، لأنّ في قصائده رجلاً على صليب الانتظار يحتجّ على السماء بكلّ ما في اللغة من قدرة على التعبير عن القساوة الإلهيّة، والمطلوب واحد لا غير رجل يتوق إلى أنّ يصير أبًّا: «ربّاهُ عدلَكَ مرَّة ... ما أظلمكْ/ لا أنت ربّي بعدُ أو أنا خادمك / خَفَقُوا وما وُلدوا... جنينٌ بعد آخر / بعد آخر... آه ما أقسى دمكْ». لم يستطع الشاعر إلا أن يكون أبا جنين تلْوَ جنين وكلّهم يجيئون ولا يصلون، فيزيدون الانتظار صعوبة، ويصادرون مساحات الصفاء بين الشاعر والله وتتأزّم العلاقة إلى حدّ الاتهام وذلك كلّه بخلفيّة مؤمنة، فجعجع يؤمن بأن الله هو الوحيد الذي يعطي ولا قلب جنين يخفق إلا بإرادته ومشيئته. والشاعر في انتظاره هديّة السماء إليه يهرب من عمره إلى احتمالات زمن آخر، فيه الأبوّة معادِلة للنبوءة، وبين الآباء والأنبياء تساوٍ ومن يهزّ سريرًا كالذي يهزّ أمَّة بلوح وصاياه: «أكاد أهرب من عمري إلى زمنٍ/ أصير فيه نبيًّا أو أصير فيه أبا». وجعجع الرَّجُل هو أب قبل أن يكونه، هو أب بفعل الشوق والتّوق والرّغبة والإيمان، وأمضى عمره يغنّي لطفل كي ينام ولا الطفل ولا النّوم موجودان: «عمرٌ مضى، آه كم أضنى يديك سدى / هزّ السرير لطفلٍ بعد ما وُلِدَ». هذا المخاض الطويل الذي يحتضن بيادر الحزن ويختصر الوقوف المزمن تحت قنطرة الخيبة يفسّر الفرح الاستثنائي الذي يظلّل قصائد الفصل الأوّل من الديوان «بَرِّيَّة البال»، إذ إنّ وصول ماري جوزيه إلى الدنيا، بعد أن صارت الأجنَّة لعبة في الأرحام، فتح بوّابة الفرح واسعة وأعاد الله إلى عرش رحمته وأصبح طريق الشاعر إلى السماء مفروشًا بالرياحين والمفردات التي تحترف التعبير عن سلام الإنسان الداخلي. وإلى طفلته الوحيدة أهدى جعجع ما في غيم قصائده من شهيّ المطر، فهي رهان العمر وقد وصلتْ بعد تسلُّق جبال الصّبر حيث الصّخر جمر والمناديل التي تردّ الشمس عن الجبال أكاليل شوك: «عَيناكِ في نُتَف الأنفاسِ، في تعبي / في آخر الصَّبر والجمرات والعَتَبِ / عمرٌ مضى آه كم شَبّت به غُصصٌ / دُمًى بلا وَلَدٍ يا حرقة اللُّعَبِ...». لا شيء في الدنيا يُغري الشاعر بالبقاء سوى مناداة واحدة هي زَبَدُ اللغة وتاجُها الأبيض: «حسبي من الله أن نادت غدًا بأبي»، غير أنّ الفرح العظيم لم يستطع بتْر ذاكرة الشاعر الكئيبة فهو يختتم قصيدته السعيدة «في آخر الأوراق» قائلاً: «عمرٌ مضى آهٍ كم هزّت يداي سدى / يا مهدُ من خشبٍ... والطفل من خشبِ». ومع ماري جوزيه غدا جعجع يؤرّخ بجميل الشّعر يوميّاتها، ويعود ليحيا طفولته المفقودة من خلال طفولتها ويرى الله ضاحكًا في وجنتيها بعدما تعثّرت وتأزّمت علاقته معه زمنًا طويلاً: «ربَّاهُ ها أنتَ في آيات وَجْنَتِها / وها أنا وَلَدٌ قد عدتُ من وَلَدِ». ويستمرّ الشاعر في قصائد الفصل الأوّل معلنًا حبّه الأكبر ناظرًا إلى طفلته أميرة خرافيّة تدورُ حولها الشمسُ والأرض وتسمو وتتّسع لتصير رغيف الخبز، والبيت، والإله محمولةً على كتفه: «خبزي على كتفي / بيتي على كتفي / ربّي على كتفي، يا سعدَها الكتفُ». في الفصل الثالث من الديوان «قليلٌ من عينيكِ» ينتقل جعجع إلى ضفّة المرأة، ويقصد جسدها على بساط اللغة بصيغة السؤال: «أنا مذ عدتِ ترمين السؤالَ / أَنَهْدٌ قبلُ حاكَ يديك شالا؟». فالشاعر يحمل يدين متّهمتين بالنهود، وقد يترك نساءه لممحاة الزمن فَيَتَقَمَّصْنَ عبور الغمام: «أم اللهُ محاني في زمانٍ / عَبَرْناه غمامًا أو... خيالا». وإذا أقبل جعجع على الحبّ فهو يقول: «لا أُطيق حساباً» ويرجو الانسكاب والانسياب ويرفض قُبَلاً ترجع من سَكْرَتها عاتِبة وكأنّها أعطت ما لم تُرِد إعطاءه، وجادَت بِفِرْدَوس وكأنَّها تحلم باسترجاعه: «ليس أقصى في العشق من قُبَلٍ تغفو/ سكارى بنا وتصحو عتابا»، ويتوجّه إلى المرأة الملتزمة بصيام الجسد محذّرًا إيّاها من ذئاب هي تحت ثوبها الحاجب جسداً صائماً: «لا تظني أن الصيام وقارٌ/ إن في بعض الصيام ذئابًا». يقف جعجع طويلاً بين مدّ اللقاء وجزر الفراق: «وترحلين غدًا، حسبي أعودُ غدًا / كأنّنا في اقتراب الضمّ ما بَعُدَ»، منطقة الالتقاء هي نقطة الافتراق نفسها، ومرور الواحد بالآخر مرورُ البُعدِ بالقرب ما يجعل العمر رحلة بلا شراع ومَسِيرًا بلا قَدَم: «ويُصبح العمر ترحالاً بلا سَفَرٍ / كمن يَحُطّ على بالٍ وما شَرَدَ». ويعرف الشاعر جيّدًا تَقْييم العيون فلا يتردّد في البوح لامرأة ذات عينين، لم يحدث أن مرّ في عينيه مِثْلُهما، بأنّه نادم على قصائد ارتكبها في عيون سابقة: «حدِّقي بي ... تسامحيني قليلاً / قلتُ شعرًا غير هذي العيونِ». وبشجاعة الاعتراف بالجمال والحبّ يعلن جعجع انسحابه من حبّ ما عاد سيِّدَه ويعيد قلبه إلى صدره سالمًا: «دَعي المعاجم حرفًا ينكر الحرْفَ / إنّي مَلَلْتُكِ لَهفًا يشتكي اللهْفَ»...«شال الغمام» لأنطوني جعجع إبحار شعريّ موفّقٌ في اتجاه شاطئين، كلاهما يغري، فالأوّل قمرُهُ وجْهُ وَلَدٍ، والثاني لامرأة من رماله خيمة للتلاقي ولأخرى قصور قصيرة العمر تعبَثُ بها وتمضي.
توابل
أنطوني جعجع في شال الغمام... أبٌ يهزّ سريراً في القوافي
04-06-2009