في عصر صراع الحضارات وصدامها، وازدياد حدة المواجهات ذات الطابع الديني في العالم كله يفتح «دير الدومينيكان» في مصر أبوابه للجميع كداعية لتعايش الحضارات ويقدم تجربة عملية لفهم أفضل للآخر، بعيداً عن هاجس الخوف من ديانته.

هدف المعهد التابع للدير إعادة الحياة إلى العلاقات الفكرية بين المسيحيين والمسلمين. وللمكان دلالته على أطراف حي الجمالية، بالقرب منه تقع القاهرة الفاطمية بجوامعها وأسوارها، كذلك يقع الأزهر الجامع والجامعة لتتناغم المنطقة بروحانيتها مع الدير، وتحيط به حديقة مليئة بأشجار الكافور التي توفر جواً من الهدوء والروحانية.

Ad

تنبع أهمية المكتبة من تصميمها على أحدث الطرز العملية والمكتبية، إذ تحوي قاعة واسعة للقراءة، وأخرى لحلقات الدراسة الخاصة بالباحثين والطلاب، وفُهرست الكتب في برنامج يبث على الإنترنت باسم موقع الكندي لتيسير مجالات البحث، ما يمكّن الدارسين من اختصار الجهد المبذول في البحث عن مراجع معينة.

تضم المكتبة تقسيمات عدة في مختلف فروع الثقافة العربية، من بينها اللغة العربية، الإسلاميات، القرآن والحديث، الفقه، الفلسفة الإسلامية، علم الكلام، التصوف، تاريخ الإسلام، الكتب الغربية المتأثرة بالثقافة العربية والعكس صحيح، الفن العربي الإسلامي، وعلم العمارة.

اصطحب أمين مكتبة الدير الأب رونيه فانسان دو غرانلونيه «الجريدة» في جولة داخل أروقة المعهد والمكتبة، وقال: {الدير فتح أبواب مكتبته العملاقة ومعهده المتميز لاستقبال المثقفين المصريين وكبار رجال الدين مسلمين كانوا أو مسيحيين ومتخصصين في الإسلام أو في غيره من العلوم الفلسفية، وأمام باحثين كثيرين من جميع أنحاء العالم، فدراسة التراث العربي الإسلامي الأدبي أو العلمي أو الفلسفي، منبع التيارات والمذاهب المعاصرة، تسمح ببناء جسور صلبة بين الثقافتين الإسلامية والغربية».

وأشار الأب إلى أن «المكتبة بعد أن ضاقت بمقتنياتها تقرّر إنشاء مكتبة جديدة افتتحت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2002 بعد تجديد مبناها، وشارك في الافتتاح وزير الأوقاف المصرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مصر، وحضر خصيصاً من روما الكاردينال موسى داؤد رئيس مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان.

وتابع: «تضم المكتبة أكثر من 125 ألف كتاب و50 مخطوطاً، إضافة إلى عدد لا يحصى من المجلات والدوريات والمنشورات، منها ما توقف صدوره ومنها لا يزال يصدر وتتابعه المكتبة. كذلك تحرص مكتبة الدير على إقامة علاقات ثقافية ممتدة في جميع المراكز البحثية في العالم من اليابان إلى أوروبا وأميركا».

وعن سبب اقتصار المكتبة على استقبال طلاب السنة النهائية في الكليات المصرية والدرجات العلمية الأعلى، أكد الأب رونيه أن «السبب حرص الدير على تقديم مستوى خدمات أفضل والتأكد من وجود دافع علمي لدى زوار المكتبة».

وتتمتع مكتبة الدومينيكان بتاريخ عريق؛ إذ تردد عليها أعلام الفكر المصري والعربي، وكان أبرزهم عباس العقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين وأنيس منصور ولويس عوض وسلامة موسى والشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق، ونجيب محفوظ الذي لم يكتف بالتوقيع في محضر الجلسات بل وجه جزيل الشكر لقنواتي على اهتمامه بالاقتراب من الأدب والأدباء، والأب قنواتي كما هو معروف أول من اكتشف نجيب محفوظ وأشار إلى موهبته.

ظهور الرهبنة

تنتسب حركة الرهبنة الدومينيكانية إلى مؤسسها دومينيك الكاهن، الذي ولد في أسبانيا عام 1170. ذهب دومينيك إلى مدينة تولوز في جنوب فرنسا فجمع لفيفاً من الأخوة لنشر الإيمان والعقيدة للكنيسـة، وإعطاء القدوة الصالحة بحياة مشـبعة بروح الإنجيل وسلوك تلامذة المسيح. في مجمع اللاتران عام 1215 في روما أُعجب البابا إينوسـانيوس الثالث بأعمال دومينيك فكلفه نشـر جماعته في البلدان الأخرى فحاز بذلك شرعية الوجود.

بدأ دومينيك العمل بوضع نظام حياة رهبانية، وعندما ٌتوفي في بولونيا في إيطاليا عام 1221 كانت رهبنة «الأخوة الوعاظ»  انتشرت في مناطق كثيرة من أوروبا وبلاد الشرق.

عمل الرهبان الدومينيكان على التواجد في غالبية الميادين، فثمة مثلاً من عمل في مجال الفنون ومهمة الدفاع عن حقوق الهنود في أميركا اللاتينية، إضافة إلى دخولهم مجال العلم والأدب والصحافة والإرشاد الروحي للعمال والطلاب والمسجونين.

في الشرق

بعد وفاة القديس دومينيك بفترة قصيرة تأسس دير دومينيكاني في القدس، فبالإضافة إلى سعي الأخوة الدومينيكان إلى خدمة الطوائف المســيحية المحلية عملـوا أيضاً على اكتشاف هذه الأماكن المقدسـة التي عاش فيها المسيح عليه السلام.

خلال القرن الثالث عشـر انطلق الآباء الدومينيكـان من القدس إلـى لبنان والعراق وبلاد الفرس، وفي عام 1237 أرسـل الأخ فيليب رئيـس دير القدس مجموعة من الرهبان لزيارة البطريرك القبطي في الإسكندرية. وفي القرن السابع عشر جاء إلى مصر العالم الدومينيكاني الألماني الأصل فانسلب وترك لنا مؤلفه الرائع «تاريخ كنيسة الإسكندرية» الذي يعتبر المرجع الرئيس لمعرفة تاريخ المسيحية في مصر.

أنشئ دير الأباء الدومينيكان في القاهرة للمرة الأولى في عام 1928، إلا أن انطلاقته الحقيقية جاءت عام 1937 عندما تولاه الآباء جورج شحاتة قنواتي وجاك جوميه وسرج دي بوركييه، وقرروا منذ عام 1937 تكريس أنفسهم للثقافة العربية في هذا البلد الإسلامي بهدف مساعدة المسيحيين على اكتشاف عالم ديني لم ينل حظه من المعرفة والتقدير آنذاك. ونجحوا في تأسيس «معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان» (IDEO) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.