سيرغييف بوساد، روسيا - أدركت إينا كاشنيكوفا هدفها في الحياة عندما كانت في الصف الرابع. فقد أخذت المدرسة تلاميذ صفِّها في رحلة إلى بلدة سيرغييف بوساد الخلاّبة التي تنتج الماتريوشكا، تلك الدمى الخشبية التي توضع الواحدة داخل الأخرى وتشكل رمزاً للفن التراثي الروسي.

تجلس كاشنيكوفا (40 سنة) إلى طاولة عملها الخشبية في معمل Aofis وتستخدم قطعة قطنية صغيرة لترسم أزهاراً بيضاء على مئزر دمية ماتريوشكا غير منتهية. تتذكر كاشنيكوفا: «عشقت هذا المكان بسبب رائحة الطلاء وهذه الألوان الزاهية كلّها. فرحت أحلم منذ ذلك الحين بالعمل في رسم الدمى».

Ad

لكن الماتريوشكا، تلك الشخصيات البيضاوية الشكل التي تحتوي كل من دماها على دمية مماثلة لها وإنما أصغر حجماً، تواجه المشاكل اليوم، ما يهدّد عمل كاشنيكوفا.

تقليد روسي

تقع بلدة سيرغييف بوساد التاريخية في الشمال على بعد نحو ثمانين كيلومتراً عن موسكو، وهي موطن الماتريوشكا. لكن مصانع هذه البلدة التي أنتجت الدمى طوال عقود تناضل اليوم كي لا تُقفل أبوابها. فقد خفّضت المتاجر طلباتها وتوقفت حركة السياح. نتيجة لذلك، يعرب الحرفيون أمثال كاشنيكوفا عن قلقهم من ضياع نمط حياتهم وخسارة هذا التقليد الروسي المميز.

بما أن روسيا تعاني أسوأ تراجع اقتصادي منذ عقد، يطالب مصنِّعو هذه الدمى بمساعدة حكومية، محذرين من أن نجاة مهنتهم تعتمد على هذه المعونة، وخصوصاً بعد تراجع مبيعاتهم بأكثر من الثلث حتى اليوم.

وافق الكرملين على إضافة الماتريوشكا إلى موازنة الإنقاذ التي أعدَّها، متعهداً بشراء مجموعة من هذه الدمى والقطع التذكارية الأخرى بقيمة 30 مليون دولار تقريباً ليقدمها المسؤولون كهدايا. تشكِّل مبيعات الماتريوشكا أقل من 1% من صناعة القطع التذكارية في روسيا، التي تصل قيمتها إلى 1.2 مليار دولار. بيد أن المسؤولين يؤكدون أن المال والوظائف ليسا الأهم.

دمية سياحيّة

يذكر غالينا سوبوتا، نائب عمدة بلدة سيرغييف بوساد: «تمثل الماتريوشكا وجه روسيا. صحيح أنها لا تعود على البلد بأرباح مالية كبيرة، ولكن يجب ألا نسمح لها بالاختفاء من حياتنا». وأمرت الحكومة بنصب منطاد في هذه البلدة له شكل دمية ماتريوشكا بغية الترويج للسياحة.

يُقال إن أول ماتريوشكا صُنعت في هذه البلدة في تسعينات القرن التاسع عشر، بعد أن رأى حرفي محلي مجموعة من الدمى الصينية المتداخلة على شكل إله بوذي. فابتكر النسخة الروسية منها معطياً إياها شكل فلاحة متّزنة. أما اليوم فيستطيع السياح شراء لعب مطلية تمثل مختلف الشخصيات، من آل سيمبسون إلى القادة الشيوعيين والرؤساء الأميركيين.

بنيت بلدة سيرغييف بوساد حول دير يعود إلى القرن الرابع عشر. ولا تزال تُعتبر حتى اليوم من أهم مناطق تصنيع الماتريوشكا. تضم هذه البلدة متحفاً أُنشئ منذ قرن يعرض دمى ترجع إلى كل عقد من العقود العشرة الماضية. لكن شجر الليمون الحامض التي يُفضلها صنّاع الماتريوشكا بسبب خشبها الطري اختفت من المنطقة تقريباً. نتيجة لذلك، انتقل معظم الإنتاج إلى نهر الفولغا خارج نيزني نوفغورود، حيث يصنّع الحرفيون دمى أكثر استدارة ملبسينها ثوب فلاحة أحمر فاتحاً ووشاحاً أصفر.

يُنتَج معظم دمى الماتريوشكا في مصانع أو مشاغل صغيرة. ويتولى حرفيون نحتها الواحدة تلو الأخرى بعد أن يكونوا أمضوا سنوات في التدرّب على المخرطة. وطلاء الدمى عمل سهل. حتى أن موظفين حكوميين كثيرين سرِّحوا في مختلف أنحاء البلاد خلال الاضطراب الاقتصادي، الذي تلا سقوط الاتحاد السوفياتي، جنوا قوتهم بطلاء الدمى في منازلهم. يوضح سوبوتا: «في تسعينات القرن الماضي، ساعدت الماتريوشكا الناس على تأمين قوتهم. فما من منزل في سيرغييف بوساد لم يعمل أحد أفراده في طلاء الدمى».

شكّلت هذه الدمية لعبة الأولاد المفضّلة خلال العهد السوفياتي، حين لم يقدم اقتصاد الدولة الى المستهلك خيارات واسعة. غير أن شعبيتها تراجعت في روسيا بعد انفتاح الاقتصاد.

يُنتح مصنع Aofis، الذي يتولى ألكسندر كورينوي إدارته، الماتريوشكا منذ العام 1947، وهو يعتمد إلى حد كبير على زيارات السياح ليجني الأرباح. يوضح كورينوي: «من الصعب منافسة اللعب الصينية والبلاستيكية».

طلب المساعدة

يعتبر البعض اليوم أن هذه الأزمة المالية ستشكل على الأرجح الضربة القاضية لهذه الصناعة. يخبر ألكساي بوليكاربوف، مدير شركة Dyuna Nesting Doll Co، أنه اعتاد بيع دمى بقيمة 35 ألف دولار شهرياً لمتاجر في روسيا والخارج، إلا أنه لم يتلقَّ أي طلبية منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر). وقد تأخرت هذه الشركة، التي تقع خارج نيزني نوفغورود، في تسديد مستحقات المزودين والعمال، على حدّ تعبيره. لذلك بدأت تُصنّع لعباً خشبية أخرى في محاولة أخيرة لتفادي الإفلاس. لكن بوليكاربوف يقول بثقة: «أنا متأكد من أننا سنتخطّى هذه الأزمة».

يعتبر آخرون أنهم بحاجة إلى مساعدة الحكومة ليستمروا. ففي شهر آذار (مارس) الماضي، التقى ممثلو أكبر مصنع لدمى الماتريوشكا، Khokhloma Painting، بالمسؤولين في موسكو ليطلبوا منهم إعفاءات ضريبية ومساعدات مالية. وطلب ممثلو صناعات الكريستال وأشرطة الزينة والخزف أيضاً مساعدة مماثلة.

وعود حكومية

بدأ رجال الأعمال ينادون بأن مخازنهم امتلأت وأنهم تخلّفوا عن سداد قروضهم المصرفية وأن صناعة القطع التذكارية تواجه وضعاً حرجاً، حسبما جاء في تقارير وسائل الإعلام الحكومية. وبعد يومين، أعلنت الحكومة أنها ستشتري في السنة المقبلة دمى ماتريوشكا وملاعق خشبية ملونة وعلباً مصقولة بقيمة 28.4 مليون دولار.

لكنّ مصنِّعي الماتريوشكا يشكّون في أن الحكومة ستفي بوعدها، قائلين إنهم يفضلون أن يخفّض الكرملين الضريبة على الصادرات ويسهّل الحصول على المساعدات المتوافرة راهناً.

يذكر أوليغ كوروتكوف، مدير شركة Semyonovskaya Painting التي انخفضت مبيعاتها بأكثر من 90%: «منذ 12 سنة، أسمع الحكومة تتحدث عن دعم الحرف الشعبية. ولكن من المؤسف أننا لم نحصل على أي

مساعدة تُذكر».