قلّما كان مشهد الطاقة العالمي مليئاً بالفوضى كما في السنوات الأخيرة، ومع انطلاق القمة العالمية لطاقة المستقبل في أبوظبي، نلاحظ أنها جاءت في إطار عالم يتبدل بسرعة، فقد اقترب إنتاج النفط من ذروته، وحددت الوكالة الدولية للطاقة في خطوة غير مسبوقة عام 2020 أول عام لا يتخطى فيه اكتشاف مخزونات نفطية تقليدية جديدة استنفاد الحقول القائمة، علاوة على ذلك، ازدادت الاستثمارات اللازمة لاستخراج النفط، وصارت الأسعار أكثر تقلباً، والطلب العالمي مستمرا في صعوده، كذلك قد تتفاقم العقبات التي تعترض طريقه، من القراصنة في القرن الإفريقي إلى المتمردين في دلتا النيجر وربما مضيق هرمز في حال واجهت إيران صراعاً.

Ad

لا عجب في أن إدمان العالم على الطاقة بشكلَيها النفط والغاز الطبيعي صار اليوم العنصر الرئيس المحدد للسياسات العالمية، فالنفط أداة قيّمة في إدارة البلاد والثروات، إذ تملك الشركات المملوكة للدولة 80% من احتياطيات النفط في العالم، ومن هنا تأتي العلاقة الأكيدة بين النفط والنفوذ، لكن على الدول الغنية بالنفط أن تستعد لمواجهة مستقبل مضطرب وأن تفكر في عواقب التغييرات المناخية. يعني ذلك في نظر الإمارات العربية المتحدة الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة، في حين تعتبر المملكة العربية السعودية أن الحل يكمن في المحافظة على دورها كمزود لإمداد طاقة مستقر.

أما في البلدان التي تستورد النفط، فقد تحوّل ضمان الحصول على النفط إلى أولوية أساسية تؤثر في خيرها ونموها وأمنها، لكن المنافسة المتزايدة تولّد تعقيدات على الصعيدين المحلي والدولي. لنتأمل في حالة أوروبا الوسطى، حيث يتجمد الناس في شققهم كلما اختلفت أوكرانيا وروسيا وقررت موسكو أن تقفل خط الغاز. بذل الاتحاد الأوروبي قصارى جهده ليجد سبلاً تمكنه من تخطي روسيا وإنهاء اعتماده عليها، وقد يكون خط أنابيب النفط "نابوكو" الحل، إذ يعبر هذا الخط تركيا وجنوب شرق أوروبا، وهو ينقل الغاز الأذري والعراقي، وربما الإيراني في يوم من الأيام، مباشرة إلى المستهلك الأوروبي.

كذلك سيكون لخط "نابوكو" تأثير كبير في سياسات الشرق الأوسط، وسيجعل هذا الخط تركيا عنصراً بالغ الأهمية في أمن أوروبا الاقتصادي، إلا أنه قد يمنح إيران نفوذاً أكبر في الاتحاد الأوروبي، إذ ستتحول إلى شريك لا غنى عنه، لكن الروس يردون على هذه الخطة بخطط تهدف إلى إنشاء خط شمالي يمر تحت بحر البلطيق ويوصل النفط مباشرة إلى ألمانيا، أمر يُفرح هذا البلد ويسيء إلى الاتحاد الأوروبي.

لنسأل المواطنين في السودان وغيره من البلدان الإفريقية، فغالباً ما يرى هؤلاء الصينيين يستثمرون في بلدانهم، وهدفهم واحد: ضخ النفط غير عابئين بالبيئة أو بمجتمعاتهم. بحلول عام 2030، سيكون على الصين المتعطشة للطاقة أن تستورد ثلثي نفطها، وبما أنها إحدى الأمم التي تنمو بسرعة هائلة، فإنها تشكل تحدياً كبيراً أمام أسواق النفط التقليدية، وكي تغذي بكين نموها وتؤمن الإمداد الذي تحتاج إليه، تفضل توقيع اتفاقات ثنائية مع بلدان ضعيفة غنية بالموارد. بيد أن هذا يحدث خللاً في السوق العالمية، وله تأثير سلبي في الشفافية والحوكمة.

على نحو مماثل، تستثمر الهند، التي يتنامى اعتمادها على واردات الطاقة بشكل مطرد، أموالاً طائلة في إيران، منتهكة بالتالي العقوبات التي تهدف إلى ضبط برنامج تلك الدولة النووي. لنتأمل في حالة الولايات المتحدة التي تُطلق الشعارات بشأن إنهائها الاعتماد الأميركي على الشرق الأوسط، معتبرةً ذلك وسيلة لمحاربة التطرف الإسلامي. لكن اعتماد الولايات المتحدة على النفط العربي ما هو إلا خرافة، إذ تحتل كندا والمكسيك المرتبتين الأولى والثانية بين مزوديها بالنفط، في حين أن المملكة العربية السعودية والعراق يأتيان في المرتبتين الثالثة والثامنة على التوالي. أضف إلى ذلك أنهما المنتِجان العربيان الوحيدان بين أهم عشر دول تزود الولايات المتحدة بالنفط، وإذا علل هذا الأخير، ولو جزئياً، التخلّف السياسي والاقتصادي السائد في العالم العربي، فلا يُعتبر وحده سبب التطرف والإرهاب.

يجعل هذا الواقع الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج خصوصاً أكثر أهمية على الصعيدين الجغرافي والسياسي، فحتى لو لم تُحرَّر دولة الكويت ويُغزَ العراق من أجل النفط، تبقى هذه السلعة بالتأكيد مقياس المصالح الأميركية والعالمية في المنطقة. فتتمتع هذه المنطقة بأدنى تكلفة إنتاج للبرميل الواحد وتضم أكبر احتياطي في العالم في المملكة العربية السعودية، فضلاً عن أبرز الحقول التي لم تُستثمر بعد في العراق (بسبب عدم استقراره) وإيران (بسبب العقوبات). أضف إلى ذلك وفرة الوسائل التكنولوجية ورؤوس الأموال. لطالما أحجم مزودو الخليج العربي عن استخدام النفط لأهداف سياسية، ولكن مع تزايد طلب عمالقة ناشئين ذوي أهمية جغرافية سياسية كبيرة مثل الصين، قد يدفع السباق، إلى الفوز بالأسواق والتأكد من حسن النوايا السياسية، البلدان المنتجة للنفط إلى المساومة على هذا المبدأ الذي تعزه كثيراً. فيعود مثلاً تردد الصين في الضغط على إيران إلى العلاقة المتنامية بين هذين البلدين في مجال الطاقة. ويشكّل الضغط الأميركي على دول الخليج لزيادة الإنتاج وخفض أسعار النفط بهدف إفلاس النظام الإيراني مثالاً آخر لاستعمال النفط سلاحاً.

علاوة على ذلك، تُعتبر منطقة الشرق الأوسط الأكثر اعتماداً على عائدات النفط، وهي بالتالي الأكثر تأثراً بتقلبات الأسعار، وعندما تنخفض أسعار النفط بشكل حاد، ترى الدول المنتجة للنفط أن خططها الاقتصادية مهددة، ما يرغمها على إعادة النظر في مسائل النمو وحسابات موازنتها، كذلك تلحق هذه المشكلة الضرر بالبلدان العربية التي تفتقر إلى النفط، لأنها تعتمد على نشاط جيرانها الاقتصادي والمالي لتحقق نمواً. وعندما تعاود الأسعار ارتفاعها، تتمثل المخاطر في سوء الإدارة والرضا الذاتي، ومن الأمثلة على ذلك طلب الكويتيين أن تلغي الحكومة كل الديون الشخصية.

بالإضافة إلى ذلك، تدفع الدول ثمناً باهظاً بسبب سوء إدارة ثرواتها النفطية. على سبيل المثال، كانت سورية واليمن حتى وقت ليس ببعيد دولتين مصدرتين للنفط تعتمد موازنتهما الوطنية بشكل كبير على العائدات النفطية، إلا أن حقولهما تكاد تنضب، وبما أنهما أخفقتا في الاستثمار في قطاعات منتجة أخرى من اقتصادهما، فإنهما تواجهان اليوم عدداً من المشاكل التي تفاقمها لعنة النفط. كذلك يؤذي الشرق الأوسط نفسه بطرق أخرى. مثلاً، يجعل الدعم الحكومي النفط رخيصاً جداً في منطقتنا، ما يشجع على الهدر في الاستهلاك، في حين أن التفكير المنطقي يقضي بتخزين هذا النفط أو تصديره أو تحويله إلى صادرات القيمة المضافة، مثل المواد البتروكيماوية. فتستهلك هذه المنطقة كمية توازي ضعف ما تستهلكه الهند، مع أن عدد سكانها لا يتخطى ربع سكان ذلك البلد. للمحافظة على أهميته الجغرافية السياسية، على الشرق الأوسط أن يبدأ بالتخطيط لمستقبل يتخطى اعتماده الضيق على النفط، ونأمل أن يؤدي استثمار الإمارات العربية المتحدة في الطاقة النووية وأنواع الطاقة البديلة لهذا البلد إلى استغلال أمثل لهبةٍ إذا أُسيء استعمالها، تصبح حقاً "مخلفات شيطانية".

* إميل الحكيم | Emile Hokayem