تنشغل المنطقة بالمناورات العسكرية الضخمة التي تقوم بها تل أبيب وتستمر لمدة خمسة أيام، ليس فقط لأن هذه المناورات هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ الدولة العبرية، ولكن أيضاً بسبب وضوح سياقها الإقليمي والمستهدف منها: إيران. أطلقت تل أبيب على المناورات اسم «نقطة التحول» في محاولة للإيحاء بأن التطورات القادمة ستسير على العكس مما سار عليه الملف النووي الإيراني في السنوات الماضية، وهو ما يعكس أمنية إسرائيلية قبل أن يعكس واقعاً عسكرياً وسياسياً في المنطقة. وبسبب المناورات العسكرية الضخمة فقد توقع كثير من الكتاب والمعلقين في الأسبوع الماضي أن تقوم الدولة العبرية بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران قريباً، خصوصاً في ضوء التسريبات الإعلامية الصهيونية من أن البرنامج النووي الإيراني سيبلغ نقطة اللا عودة في غضون شهور قليلة.

ربما يساهم في تكوين هكذا توقع أن تل أبيب تملك ترسانة دمار هائلة، وهي أقوى الجيوش في المنطقة وتمتلك قدرات نووية عسكرية مؤكدة، كما تتحالف تحالفاً وثيقاً مع واشنطن، وبالتالي يصبح الحديث عن ضربة عسكرية صهيونية لإيران أمراً محتملاً. وبالرغم من كل هذه الاعتبارات يبدو أن توقع ضربات عسكرية إلى إيران لا ينبني بالضرورة على توازنات القوى ومقتضياتها، إنما على التفكير بالأمنيات!

Ad

لم تعد التوازنات في المنطقة تسمح بالعنتريات الإسرائيلية، فإيران ليست غيرها، ووسائل الردع التي تملكها تفوق بكثير ما امتلكه العراق إبان تدمير مفاعله النووي أوزيراك. كما أن سلاح الجو الإسرائيلي وبالرغم من تفوقه على كل جواره الجغرافي سوياً، فإنه لا يستطيع تدمير المنشآت النووية الإيرانية الموزعة على طول وعرض الجغرافيا الإيرانية الشاسعة. كما أن بعد الجغرافيا الإيرانية عن الكيان الصهيوني (ألفي كيلومتر) يجعل من مهمة الطائرات المغيرة صعبة للغاية. وتملك إيران من الدفاعات الجوية حول المنشآت النووية ما يمكنها من تكبيد دولة الاحتلال الصهيوني خسائر جسيمة في حال أقدم سلاحها الجوي على الهجوم. وفوق كل هذه الاعتبارات سيوفر الهجوم الصهيوني على إيران للأخيرة أن تقوم بضربات انتقامية متنوعة، دون أن تستطيع الدولة العبرية في هذه الحالة استخدام قدراتها النووية العسكرية، لأن إيران لن تكون البادئة بالعدوان. صحيح أن تل أبيب تمتلك السلاح النووي، وصحيح أن تل أبيب تمتلك علاقات ونفوذا هائلا داخل المؤسسات الأميركية، ولكن ذلك لا يعني أن شن حرب خاطفة على إيران أمر ممكن ببساطة لأن طهران تعرف التربص الصهيوني بها ولا توجد هناك مفاجآت بالمعنى الحرفي للكلمة.

تعد المناورات المذكورة تجديداً حسابياً في معادلات الردع النظرية الواردة في العلوم العسكرية، إذ من المعلوم أن الحسابات والتقديرات الاستراتيجية الخاصة بردات فعل الخصم لم تعد تقتصر على الضربة الأولى التي يوجهها أحد الأطراف، بل أصبحت تنشغل منذ الحرب الباردة النووية بالضربة الثانية. حفظت «الضربة الثانية» لكل من المعسكرين المتصارعين فرصة البقاء في العصر النووي ومنعت الحروب النووية، لأن كل معسكر كان يعرف تماماً قدرة المعسكر الآخر على القيام بالضربة الثانية. وتعني الأخيرة أن الطرف الذي يتلقى الضربة الأولى يستطيع استيعابها، قبل أن يشن الضربة الثانية التي تحمل من وسائل الردع ما يكفي لجعل الضربة الأولى عملاً طائشاً. ومن وقتها دخل مصطلح «الضربة الثانية» إلى أدبيات السياسة والعلوم الاستراتيجية، باعتباره مصطلحاً محدداً لمسار العمليات العسكرية، وبالتالي للنتائج السياسية. ومع المناورات العسكرية الصهيونية الحالية أصبح الحديث يدور عن «الضربة الثالثة» التي ستوجهها تل أبيب إلى إيران، في حال استوعبت الأخيرة الضربة الأولى وأفلحت في القيام بالضربة الثانية. ومن المعلوم في كل حسابات الاحتمالات حتى الآن أن طهران ليست في وارد توجيه ضربة أولى إلى تل أبيب، وذلك لأن البدء بالهجوم سوف يضع «إسرائيل» في موضع الضحية ويجعلها تبتز مشاعر العالم لتوجيه ضربة قاصمة إلى إيران، حتى باستخدام رؤوس نووية. ولأن إيران تعلم ذلك جيداً، فإنها تكتفي بامتلاك إمكانية القيام بالضربة الثانية وتردع «إسرائيل» عبر عملية معقدة من الإمكانات العسكرية غير التقليدية ووسائل التمويه والخداع، وهو ما يطلق عليه في العلوم الاستراتيجية «الردع بالشك».

يبدو أن تل أبيب تدير حساباتها وفقاً لعلاقاتها التاريخية مع واشنطن، أي أنها تعتقد أن توجيه الضربة الأولى سيستدعى رداً إيرانياً عسكرياً كضربة ثانية، وبالتالي فمن حقها توجيه ضربة ثالثة قاصمة بالاشتراك مع واشنطن، التي ستهرع لنجدة تل أبيب في حال توجيه إيران ضربة عسكرية ثانية إليها. هيهات تستطيع «إسرائيل» أن تدمر البرنامج النووي الإيراني، مثلما فعلت مع البرنامج النووي العراقي، وذلك لأن تجربة مفاعل أوزيراك لا يمكن تكرارها مرة أخرى. تقول التقديرات الواقعية إن تل أبيب تملك نظرياً القدرة على توجيه ضربات عسكرية لبرنامج إيران النووي، وإن هذه الضربات ستساهم في تأخير البرنامج النووي الإيراني لسنة أو سنتين في حال حدوثها، ولكنها لن تستطيع شطب هذا البرنامج أو جعله في خبر كان. خلق الوجود المجرد للبرنامج النووي الإيراني على هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة واقعاً جيوبوليتيكياً لا يمكن للطائرات تغييره أو طمسه، حتى لو كانت هذه الطائرات هي الأحدث والأكثر دماراً في العالم. ومن المعلوم أن تغيير الواقع العسكري لا يتم بالطائرات، بل بالدبابات التي تعني السيطرة على الأرض، والدولة العبرية لا تستطيع حتى مجرد التفكير بعمليات برية على الأراضي الإيرانية، لأن ذلك أمر يفوق إمكاناتها العسكرية والبشرية بأشواط.

تقول النتيجة النهائية للتحليل إن «إسرائيل» تسعى عبر مناوراتها العسكرية أن تمارس الضغوط على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لكي تخلق أجواء معرقلة للحوار الأميركي-الإيراني. وتعود خشية الدولة العبرية من حوار أميركي-إيراني مفترض من أن هكذا حوار سيضع قيوداً على استفراد الدولة العبرية بالمنطقة عسكرياً، مثلما سيضمن اعترافاً أميركياً بالنفوذ المتعاظم لإيران، وهو ما تعتبره تل أبيب خصماً من رصيدها الاستراتيجي، ولذلك تبقى مسألة «الضربة الثالثة» احتمالاً نظرياً لن يتحقق على الأرجح، ولكن الابتزاز السياسي المستهدف من المناورات العسكرية سيبقى الخطر الأشد على إيران وليس المناورات في حد ذاتها.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء