صدر عن «المنظمة العربية للترجمة» بدعم من «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم» وتوزيع «مركز الدراسات العربية» كتاب «بحث في المعطيات المباشرة للوعي» للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (ترجمة الحسين الزاوي).

برغسون أحد الوجوه المؤسسة للفلسفة الفرنسية المعاصرة، وقد بلور فكره بالاعتماد على تحليل نقدي لمناهج عصره ونتائجه العلمية. وتطمح فلسفته ذات الطابع الروحي، إلى أن تكون بمنزلة «عودة واعية ومتعلقة إلى معطيات الحدس»، التي تمكننا وحدها من التطابق مع الحركة الحرة والمشكّلة للحياة والروح.

Ad

في مقدمة المترجم يرى الحسين الزاوي أنه على رغم تعدد التوجهات الفكرية والمنهجية التي تسم الفلسفة الفرنسية، إلا أن تأثير برغسون على مجمل المشهد الفلسفي الفرنسي لا يضاهيه سوى تأثير مارسه ويمارسه المنهج الفنومينولوجي، على أجيال متعاقبة من الفلاسفة الفرنسيين، ويمكن القول إن برغسون يمثل بشكل كبير ما قد يصطلح على تسميته بهوية الفلسفة الفرنسية في عمقها ونقائها وقدرتها على التواصل مع الآخر، خصوصاً الآخر الإنكلوسكسوني. أما أصالة مشروعه الفلسفي فتكمن أنه تجاوز الأنساق الفلسفية التي عاصرها بكثير من القدرة الإبداعية، من دون أن يسقط في أحد أشكال النزعة التوفيقية التي تشوه الرؤية الفلسفية وتجعلها أسيرة لتصورات قبلية، تمنعها من الحصول على هوية جديدة ومستقلة. فإذا كانت الفلسفة تشير في بعض معانيها المتعددة والمفتوحة إلى إمكان إنجاز نظرة كلية للحياة في علاقتها بالمعطيات المادية كافة التي تحيط بها، فإن فلسفة برغسون حققت، وبكفاءة يصعب مجاراتها، نوعاً من التركيب الإبداعي لمعطيات عصره العلمية والتقنية كافة وحتى الاجتماعية.

فإذا كانت المفاهيم التي وظفها برغسون في فلسفته، ترتبط في جزء كبير منها بسياق الخطاب الفلسفي العام وبألفاظ اللغة الطبيعية وعجميتها، فإن الدلالات والإيحاءات التي تزخر بها يصحّ إيجاد رديف لها في مجمل نصوص الفلاسفة الآخرين، لأن برغسون لم يكن من أنصار استعمال مصطلحات تقنية معقدة، لكنه كان يعطي لمفرداته صيغاً تعبيرية تنبض حياة وحيوية وتلتصق بعالم التجربة المعاشة أكثر من ارتباطها بأنساق الأفكار المتعالية عن الواقع.

الكوجيتو

الكوجيتو الذي يؤمن به برغسون هو كوجيتو الوعي المتحرر، أي كوجيتو الديمومة الخالصة والزمان الحي الذي لا يخضع لقوانين وإكراهات الزمان الفيزيائي، وبكلمة واحدة هو كوجيتو الحياة الذي يدوم وينصرم وليس كوجيتو الفكر المنغلق على ذاته. ويمكن القول كذلك إن فلسفة برغسون تتطلب منا أن نضعها ضمن سياق نظامها المعرفي الخاص بها أي ضمن أبستيمية (معرفية) عصرها، وفق تعبير مواطنه ميشال فوكو، فقد عاصر برغسون مرحلة حساسة جداً من تاريخ الفلسفي، تميزت بطغيان النزعة الوضعية بأصنافها وصيغها كافة، نزعة كانت تستمد مشروعيتها من نجاحات باهرة حققها العلم في مختلف الفروع والتخصصات. ولم يكن من السهولة بمكان على فلاسفة هذه المرحلة التصدي لمزاعم هذا العلم المزهو بنفسه كافة، الذي تحولت نظريات كثيرة منه إلى ما يشبه الأيديولوجيا الشمولية التي تريد السطو على مظاهر الحياة النابضة بالحيوية لتحولها إلى صيغ وقوالب مغفلة وصماء لا تعي ذاتها.

الوعي البرغسوني

يعتبر الزاوي أن الوعي البرغسوني هو الذاكرة عينها، الذاكرة التي تحتفظ في أعماقها بمعطيات الماضي الذي يتراكم ليصبح جزءاً من الحاضر، ويكون الوعي بذلك أحد أشكال استباق المستقبل. كأننا هنا أمام خاصية تسعى إلى الإمساك بالشيء الذي لمّا يوجد، لأن الوعي هو بمثابة حلقة وصل بين ما كان في الماضي وما سيكون مستقبلاً. بالتالي فإذا كانت المادة تمثل ترجمة للضرورة فإن الوعي هو ترجمة للحرية. ويمكن القول إن الوعي هو أكثر من مجرد خبرات شخصية يملكها الكائن في لحظة زمنية معطاة، بل هو إلى حد ما بمثابة الحدس المباشر والكامل، ومن ثم الواضح، الذي يملكه الذهن بصدد حالاته وأفعاله. ولأن الوعي هو إلى حد ما وجه الحرية الآخر، وبما أن الحرية لا يمكن تعريفها إلى برغسون ما دام كل تعريف لها يؤدي إلى السقوط في الحتمية، فإن الوعي ذاته يستعصي على التعريف الكامل ولا نملك بصدده إلا إعطاء بعض التحديات الأولية الذي يساعد الأنا على تمثل وضعياته المختلفة في سياق حركته المتحررة.

برغسون هو الفيلسوف الذي أعاد إدخال الحياة الروحية بزخمها كله إلى العالم، لكن بالاعتماد على حوار جدي وبناء على معطيات العلم المعاصر، وبالاعتماد على التجربة الموضوعية، ليميز بذلك، ومن خلال الديمومة المعاشة بشكل ملموس، بين زمان الوعي وزمان العلم، وليصل في الأخير إلى تحقيق نوع من المصالحة بين الفلسفة والحياة، من خلال الإدراك المباشر للأشياء الذي يجب أن يكون بديلاً جدياً عن عملية إدراكها عبر وساطة المفاهيم.

ويمكن القول إن فلسفة برغسون لم تترك جانباً من جوانب المعرفة الإنسانية إلا وطرقته ودخلت معه في حوار جدي، بدءاً بالعلوم البيولوجية والفيزيولوجية مروراً بالعلوم الإنسانية وفي مقدمها علم النفس التجريبي والاستبطاني ووصولاً إلى الدين بكل ما يختزله من طاقة روحية. لذلك فقد ميز برغسون داخل المجتمع الديني نفسه بين جانبين رئيسين، أحدهما لا يتماشى مع فلسفته وسماه بالدين الساكن، والآخر يتماشى إلى حد بعيد مع توجهاته الفكرية وسماه الدين الدينامي الذي يرمز إليه منهج التصوف الذي يحرك مكامن الروح الإنسانية.

كذلك تأثرت فلسفة برغسون بشكل واضح باجتهادات نظرية كثيرة كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر، تحديداً بآراء هوبرت سبنسر في بداية حياته الفكرية، ثم بعلماء النفس الفيزيولوجيون الذين دخل معهم في حوار ساخن، نتيجة لبصمات كبيرة تركوها على مستوى تصورات الفلاسفة في ما يتعلق بماهية الذهن البشري وطبيعته. وبدا ذلك واضحاً في سياق مواجهة فكرية حدثت بين برغسون وريبو، وأبرزت بوضوج امتدادات إنجازات العلماء الألمان العلمية والأيديولوجية على مستوى أسس علم النفس الفيزيولوجي وعلى مستوى العلم المتصل بتحديد منطق الإحساس لدى الكائن البشري.

في استهلاله للكتاب يؤكد برغسون أننا نعبر بالضرورة بواسطة الكلمات، ونفكر في المكان غالباً. وبتعبير آخر فإن اللغة تشترط أن نضع بين أفكارنا تلك التمييزات الواضحة والدقيقة نفسها، وكذا الانقطاع نفسه الذي يحدث بين الأشياء المادية، فهذا التمثل مفيد في الحياة العملية وضروري في غالبية العلوم. مع ذلك يمكن التساؤل، إذا لم تكن الصعوبات التي يثيرها بعض المشاكل الفلسفية ناجمة عن تشبثنا بأن نجاور في المكان الظواهر التي لا تشغل حيزاً مكانياً؟ فإذا قامت ترجمة غير مشروعة لما هو غير ممتد إلى ما هو ممتد، وللكيف إلى الكم، بإقامة تناقض حتى في عمق السؤال المطروح، فهل من العجب تواجد التناقض مرة أخرى في الحلول التي نقدمها؟

يعلن برغسون أنه اختار من بين المشاكل، مشكل الحرية، وهو المشكل نفسه الذي تتقاسمه كل من الميتافيزيقا وعلم النفس. وسيحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يثبت أن كل نقاش بين أنصار الحتمية وخصومهم ينطوي على التباس مسبق لكل من الديمومة مع الامتداد، وللتتابع مع التزامن، ثم للكيف مع الكم: وبمجرد زوال هذا الالتباس، سنشهد ربما انتفاء الاعتراضات المرفوعة ضد الحرية، ولكل التعريفات التي نقدمها بشأنها، وبمعنى من المعاني لمشكل الحرية في حد ذاته.