صحيح أن هذا المبنى الطويل الأبيض على حافة الطريق الرئيس 38 في أيوا (الولايات المتحدة) مكتظ ومليء بالأسمدة، إلا أنه أنظف مسكن قد يحظى به خنزير.

لا يعرف هذا الحيوان هنا معنى العشب والوحل ونور الشمس، وقلما يلامس إنساناً خلال حياته التي تدوم ستة أشهر. غير أنه يعيش بعيداً عن الأمراض التي تبطئ نمو أقاربه المقيمين في العراء وتنهي حياتهم غالباً.

Ad

يذكر ديفون سكوت، مزارع في الثالثة والأربعين يملك هذا المبنى: {ننتج هنا أفضل الحيوانات. فهي تبقى بصحة جيدة طوال حياتها}. لكن بغية تحقيق ذلك، على حد تعبيره، {يلزم أن يشكّل الأمن الحيوي أهم الأولويات}.

على رغم وسائل الحماية الدقيقة التي يتبعها مزارعون أمثال سكوت، لا يزال كثير من الخبراء يعتبرون تربية الخنازير خطراً كبيراً على الصحة العامة يُتغاضى عنه غالباً. والدليل الدامغ على ذلك، وإن كان غير مباشر، هو وباء إنفلونزا {H1N1} الذي تفشى أخيراً، بحسب الخبراء في علم الفيروسات.

نعرف القليل عن أصل هذا الوباء المستجد، لكن ثمة أمر واحد أكيد: بدأ هذا الفيروس الذي يصيب اليوم الناس في أكثر من 190 بلداً في جسم خنزير.

يشكل رصد انتقال الفيروسات بين الأجناس بسرعة، أو بالأحرى الحؤول دون حدوثه، أولوية ملحة في حقل استنفد معظم طاقته في السنوات الأخيرة في القلق من ظهور إنفلونزا منشأها الطيور في آسيا. ويتمحور الخوف الأكبر راهناً حول ما قد يحدث في حال انتشر فيروس وباء الـ{H1N1} على نحو واسع بين الخنازير لينتقل مجدداً إلى البشر.

يوضح روبرت وبستر الرائد في علم فيروس إنفلونزا الطيور: {علينا أن نعرف ما يحدث بين الخنازير في الولايات المتحدة}. أخيراً، كشف العلماء في جامعتي مينيسوتا وأيوا أنهم عثروا على سلسلة الـ{H1N1} في سبعة خنازير في معرض ولاية مينيسوتا، الذي أقيم في أواخر الصيف، فيما كانوا يجرون دراسة عن التبادل الفيروسي بين الخنزير والإنسان.

ربما التقط بعض هذه الحيوانات الفيروس من قطعان الزوار خلال هذا الحدث الذي دام 12 يوماً. لكن هذه ليست حالها جميعاً. فقد أُخذت إحدى العينات من حيوان خلال نزوله من الشاحنة. لذلك من شبه المؤكد أنه كان يحمل الفيروس قبل وصوله، حسبما أفاد غريغوري غراي، طبيب في علم الأوبئة في جامعة أيوا شارك في هذه الدراسة.

ما يقلق العلماء في علم الفيروسات المزج بين سلسلتي إنفلونزا الإنسان والخنزير، أو الأسوأ سلالات الإنسان والخنزير والطيور. فقد يؤدي ذلك إلى {إعادة تشكيل الفيروس}، إذ يحدث تبادل مجموعات من المواد الوراثية بين سلالات الفيروسات. فيولد فيروس جديد يملك نمطاً لم نعهده في السلالات التي تحدّر منها. وقد يتحلى بخصال مثل قدرة أعلى على نشر العدوى، التفشي بسرعة، القدرة على استهداف الرئتين، والأهم، إصابات غير مألوفة في جهاز المناعة.

نادراً ما تحدث إعادة تشكيل لفيروس، والأكثر ندرة ظهور سلسلة قد تتفشى كالنار في الهشيم. لذا لا نشهد إلا قليلاً من أوبئة الإنفلونزا خلال قرن من الزمن. (تفشى آخر وباء من هذا النوع عام 1968).

يسعى القيّمون على الصحة العامة إلى جعل مثل هذه الأوبئة أكثر ندرة. إحدى الوسائل المتبعة إبقاء الخنازير والبشر بعيدين عن فيروسات إنفلونزا بعضهم البعض. لكن اتضح أخيراً وجود انتقال بسيط وإنما مستمر للفيروسات بين خنازير الولايات المتحدة المئة والعشرة ملايين والمئة والعشرين ألف شخص الذين يعتنون بها.

عام 2006، تفحص فريق من الباحثين في جامعة أيوا عينات دم أُخذت من 111 مزارعاً و65 طبيباً بيطرياً و97 عاملاً في مجال تعليب اللحوم. وقارنوها بعينات من 79 موظفاً وطالباً لم يسبق لهم الاحتكاك بخنزير. بحث العلماء عن مضادات أجسام ترتبط بنوعين شائعين من إنفلونزا الخنزير. فوجدوا أدلة على أن 17% إلى 20% من المزارعين و11% إلى 19% من الأطباء البيطريين التقطوا سابقاً هاتين السلسلتين، بخلاف معلبي اللحوم والطلاب.

كذلك، كشفت دراسة أخرى أجراها الفريق نفسه أن زوجات نصف المزارعين المصابين امتلكن مضادات أجسام، ما أشار إلى أن احتمال انتقال المرض من إنسان إلى آخر وارد.

الجهاز التنفسي

تنتقل الإنفلونزا من الخنزير إلى الإنسان بالطريقة عينها التي تنتقل بها من إنسان إلى آخر، عبر قطرات صغيرة تخرج من الجهاز التنفسي أو الاحتكاك بين الفم واليد. ينتهي معظم حالات العدوى المنتقلة من حيوان إلى إنسان في المزارع لأن سلالات إنفلونزا الخنزير، حتى لو التقطها أحياناً أحد المزارعين أو الأطباء، تتمكن نادراً من التكيّف مع جسم الإنسان.

لكن بعضها نجح في ذلك سابقاً. وهذا ما حدث عام 2006 حين حصل مختبر وزارة الزراعة الأميركية في آيمز في أيوا على عينات من مزرعتين في ميسوري كانت الخنازير فيها مريضة.

يتذكر جيرغن ريتشت، طبيب في علم الأحياء المجهرية الخاصة بالحيوانات كان يعمل في مختبر آيمز: {كانت تنتظرنا مفاجأة كبيرة}. كان الفيروس عبارة عن إعادة تشكيل بين سلسلتي إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور التي يعاني منها بط المالارد والبط النهري الأزرق الجانحين. إذ أحضرت كلتا المزرعتين ماء للخنازير من برك خارجية، افترض العلماء أنها ملوثة بإنفلونزا الطيور التي حملها البط البري. لكن اللافت أن بروتين {H} على سطح هذا الفيروس (يحدد قدرة الإنفلونزا على الانتقال) كان متأقلماً تماماً مع جسم الإنسان ومطابقاً تقريباً للفيروس الذي تفشى في وباء إنفلونزا الطيور عام 1957. في هذا المجال، يذكر ريتشت: {من حسن حظنا أن هذا الفيروس لم يتفشَّ وينتقل إلى الإنسان}.

سعياً للحؤول دون حدوث ذلك، نظمت إجراءات يديرها ديفون سكوت، مثل مختبرات {المناطق الحامية} داخل المزارع. على كل مَن يدخل مبنى سكوت المعدني الذي تبلغ كلفته 525 ألف دولار الاستحمام وارتداء ثياب تغطي كامل جسمه، فضلاً عن حذائين عاليين. وهذه الثياب والمناشف، على غرار الخنازير، لا تخرج من المبنى البتة. يرتدي سكوت ومساعده غالباً أقنعة وقفازات مطاطية.

تأتي الخنازير كلها إلى هذا المبنى من المصدر نفسه، وعندما تصل إلى هذا المكان، تكون صغيرة فُطمت حديثاً لا يتعدى وزنها ثلاثة كيلوغرامات. لكنها تغادره بعد خمسة أشهر وقد صارت خنازير مخصصة للبيع زنة كل واحد منها 113 كيلوغراماً تقريباً. تخصص لكل خنزير مساحة متر مربع تقريباً، ويمكنه أن يأكل ويشرب قدر ما يشاء.

تنقل الشاحنات 23 طناً من العلف، الذي يشمل ذرة الأرض والحبوب التي تخلفها عمليات التقطير والدهن، إلى ثلاث صوامع مخروطية الشكل خارج الحظيرة. ثم يُحمل الغلف إلى الحظيرة بواسطة ناقل آلي. ويدخل رجل مرتين يومياً للتأكد من أن الأمور تسير على خير ما يُرام.

هدف {عمليات تعذية الحيوانات المحتجزة} هذه تعزيز النمو السريع والسليم. هكذا، تخلص المربون من عواقب كثيرة كانت تعيق عملية التربية، مثل قمل الخنزير، الجرب، الديدان الأسطوانية والخطافية والسوطية. يوضح مايكل مايل (57 عاماً)، طبيب بيطري يعتني بحيوانات سكوت: {نجحنا بهذه الطريقة في التخلص أو الحد من أمراض كثيرة كانت شائعة وتقليدية في مجال تربية الخنزير}. لكن الإنفلونزا ليست واحدة منها.

مضادات

أظهرت دراسة أجريت عام 2006 أن 58% من مزارع الخنازير ضمت حيواناً على الأقل يحمل مضادات أجسام بسبب الإنفلونزا. يسعى بعض المزارعين إلى حماية قطعانهم بتلقيحها ضد سلالات إنفلونزا الخنزير. حتى أن البعض يقدم لقاحات موسمية ضد الإنفلونزا (ولقاح الـH1N1 هذه السنة) إلى عمالهم، على رغم أن عدد الذين يقبلون به غير معروف. مثلاً، قدمت مزرعة تربي إناث الخنازير لقاحات ضد الإنفلونزا السنة الماضية إلى 18 عاملاً، لكن ثلثهم فقط قبل به، حسبما يؤكد مايل الذي يعتني بحيوانات هذه المزرعة. ويضيف: {لم يشكل ذلك نجاحاً يُذكر}.

من الطبيعي أن تكون عمليات تغذية الحيوانات المحتجزة، كالتي يديرها سكوت، أكثر أمناً من مزارع الخنازير في الهواء الطلق حيث تختلط الحيوانات مع الناس وتحلق الطيور فوقها. لكن إذا دخلت فيروسات إنفلونزا متعددة إلى تلك المزارع المغلقة، سيؤدي احتجاز الحيوانات في أماكن ضيقة إلى انتشار واسع للمرض وتصبح {إعادة التشكيلـ{ احتمالاً مرجحاً. تشير النماذج الحسابية إلى أن هذه العملية ربما تتحول إلى عامل {يعزز} سلالات الوباء.

يؤكد علماء كثيرون أن أهمية إبقاء سلسلة إنفلونزا وبائية بشرية بعيدة عن الخنازير أو الحد من انتشارها لا تحظى غالباً بالتقدير اللازم. يذكر مايكل أوسترهولم، مدير مركز أبحاث وسياسات الأمراض المعدية في جامعة مينيسوتا: {نخشى أن تلتقط الخنازير الـ{H1N1} الجديد، ثم يعاود الأخير الانتقال من الخنازير إلى الناس. ويدور السؤال الأهم حول ما قد يطرأ على هذا الفيروس من تغييرات وراثية خلال تواجده في الخنازير}.

بسبب قلق غريغوري غراي من جامعة أيوا من هذا الاحتمال، أورد في افتتاحيات ثلاث مجلات طبية ضرورة منح عمال تربية الخنازير {المجموعة الأهم} في أي برنامج تلقيح ضد تفشي الوباء. إلا أنه فشل. كذلك بذل جهداً لتوثيق حركة انتقال فيروس الإنفلونزا بين الخنازير ومربيها. وتبين أن هذه مهمة صعب.

طالما ارتاب مزارعو الخنازير بأي غريب يدخل مزارعهم. فهم يخشون هجمات الناشطين في مجال حقوق الحيوان والحفاظ على البيئة. ولا يريدون أن ينقل الغرباء الأمراض إلى قطعانهم المحفوظة في أماكن آمنة حيوياً. كذلك يحذرون من مشاريع علمية تربط الأمراض البشرية بالحيوان.

لا يريد مربو الخنازير الأميركيون، الذين بدأوا يخسرون المال منذ الربع الرابع من عام 2007، معرفة ما إذا كانت السلسلة الجديدة من الفيروس أصابت قطعانهم. إذ حظر أكثر من 27 بلداً استيراد لحم الخنزير الأميركي بعدما اكتُشف الفيروس الجديد في البشر الربيع الماضي، على رغم أنه لم يكن انتقل إلى الخنازير بعد ولا يمكن التقاط العدوى بتناول لحم هذا الحيوان. وعندما تبين لاحقاً أن بعض الخنازير في إحدى مزارع ألبرتا في كندا يعاني من الـ{H1N1}، عجز صاحبه عن إيجاد مسلخ يقبل بذبحه. لذلك، اضطر إلى قتل القطيع كله.

يخبر ريشت، خبير في علم الأحياء المجهرية في ولاية كنساس: {يخشى الناس من أن تكون مزرعتهم الأولى التي يتفشى فيها وباء {H1N1}. فهم يخافون من خسارة مورد عيشهم}.

شهد البحث عن الإنفلونزا في الخنازير تراجعاً خلال ستة أشهر تلت اكتشاف سلسلة الـ{إتش1 إن1} في كاليفورنيا والمكسيك في شهر أبريل (نيسان) الفائت. فقد أكدت مختبرات التشخيص في مينيسوتا وكنساس وأيوا تراجع العينات التي يقدمها البيطريون. حتى أن المختبر في جامعة ولاية أيوا ألغى ثلاث وظائف بسبب {تراجع العائدات الإجمالية الناتجة من هذه الحالة}.

يعلّق غراي وريتشت وآخرون آمالهم على برنامج أطلق الربيع الماضي تسدد فيه وزارة الزراعة كلفة إجراء الفحوصات للخنازير المريضة وأخذ عينات من القطعان حيث يُشتبه بانتشار الإنفلونزا. ويعتقد خبراء كثيرون أن هذا برنامجاً طال انتظاره.