يصحّ في البلجيكية أميلي نوثومب لقب الكاتبة «السوبر ستار»، فهي تثير جدلاً مستمرًا في الأوساط الأدبية الفرنسية، وينقسم النقاد غالبًا بين متحمس لها وبين منتقدٍ الى حدّ الإلغاء. غير أنها في الأحوال كافة تترك لدى القارئ إحساسًا بالمتعة بل هي تكتب لأجل المتعة على مبدأ أن «المتعة معجزةٌ تُعلّمني أنّي ذاتي»، وهذا أحد أقوالها.خلال السنوات الأخيرة، تُرجمت خمس روايات لأميلي نوثومب، ثلاث منها في بيروت عن «دار المركز الثقافي العربي» وهي «زئبق» و{بيوغرافيا الجوع» و{نظافة القاتل»، وروايتان في دمشق هما «يوميات سنونوة» و{ذهول ورهبة». ما من شك في أن هذه الكاتبة لا تحتاج إلى تعريف، والكتابة لديها، تبدو بمثابة ديناميكية داخلية تُنظم إيقاع أيامها. فسنويًّا، في شهر سبتمبر (أيلول)، ومنذ بداية تسعينيات القرن المنصرم، تصدر رواية جديدة. وتتصدر دائمًا قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، إذ يكون القراء والنقاد بانتظارها ويحتفون بها كتابًا تلو آخر (تقول عنها مجلة «لير»: «كل رواية لنوثومب هي بمثابة مشروب «البوجوليه» الجديد، حيث يهم الفرنسيون بأسرهم لتذوّقه سنوياً)... أدهشتنا نوثومب منذ «بيوغرافيا الجوع» التي ترجمها الشاعر الراحل بسام حجار، وبدا من خلالها كأننا نكتشف روائية جديدة بلغة مغايرة ونوع آخر من السير الفكرية الخالية من فذلكة «الاعترافات الصفراء». مع هذه الرواية نشعر أننا أمام فلسفة من نوع آخر، فالروائية تحدثنا عن درجات جوعها وأشكاله والأشياء النهمة لتذوقها، لا تتحدث عن الجوع بمعناه الإيديولوجي بل الفلسفي والذاتي، فتؤكد أن «انتفاء» الجوع مأساة لم يتطرق إليها أحد سابقاً، وتصفه بأنه على غرار تلك «الأمراض اليتيمة» التي لا تحظى باهتمام الباحثين، إذ يأكل الناس من قبيل المراعاة واللباقة، ولا يتكبد المرء مشقة ابتكار الحلوى عندما توفر له الغابة فاكهة لذيذة فاخرة إذا قارنا بها أصناف الكعك التي نبتدعها.تقول الكاتبة: «لم يكن الجوع الخارق يعني في نظري إمكان الفوز بمزيد من اللذة، بل امتلاك مبدأ المتعة نفسه، وهو اللامنتهى، وكنت خزان ذلك التوق الذي لشدته كان يجعل كل شيء بمتناول يدي». وهي تعتبر «من يعاني جوعاً خارقاً لا تكون شهيته كبيرة ومتزايدة التطلب وحسب، بل تكون له شهيات أكثر صعوبة، وثمة سلّم للقيم حيث الأكثر يولد الأفضل: مشاهير العشاق يعلمون ذلك. ويعلم ذلك أيضاً الفنانون المهووسون بفنهم، وذروة الرهافة هي خير حليف للوفرة. كلامي يستند إلى خبرة واسعة في هذا المجال. عندما كنت طفلة متضورة جوعاً إلى السكر. لم أكف يوماً عن السعي وراء زادي منه، فالسعي وراء السكاكر كان بالنسبة إلي أشبه بالسعي وراء الكأس المقدسة. كانت أمي تعارض هذا الشغف لدي ظناً منها أنها تنجح في خداعي إذ تعطيني بدل الشوكولا قطعة جبن كانت تقززني أو بيضة مسلوقة تشعرني بالمهانة أو تفاحًا بلا مذاق أو بطعم هو آخر ما قد تشتهيه نفسي». تتابع نوثومب: {الجوع رغبة أكبر من الرغبة نفسها»، وهدفها الأسمى هو الانغماس فيها. إنها ليست مجرد شهية الطعام. ثمة أشياء محددة كانت تشتهيها. السكر مثلاً لكن أيضًا الماء، الذي تعب منه كميات غير معقولة. أحد أفضل المشاهد وأشدها تعبيرًا حين تحصل على بعض الحلوى في بكين: «إذ من الصعب الحصول عليها»، وتجلس أمام المرآة لتراقب نفسها وهي تأكل وتنغمس على نحو متزايد في متعتها ونشوتها: «نعم، إنها فتاة صغيرة غريبة».نظافة قاتلفي رواية «نظافة قاتل» المترجمة حديثًا عن «المركز الثقافي العربي»، وعبر حكاية الكاتب بريتكستا طاش، الحائز جائزة نوبل، وحواراته مع مجموعة من الصحافيين، تغوص نوثومب في سراديب النفس البشرية المظلمة، مقدمة نصًّا متعدد الأصوات حافلاً بصراع الرؤى والأفكار. بلغة حادة قاسية مضحكة وكاريكاتورية أيضًا، ترسم مصائر الشخصيات، خصوصًا شخصية طاش الكاتب الذي كان يظنّ أنه قد يتحكم بمصيره، بعد أن بلغ الـ83 عامًا، والذي يتوقع موته في خلال شهرين. لكن فتاة صحافية تكشف عقم هذا التفكير وتعيد طرح حياته أمامه، بما فيها من كذب وقسوة، وأوهام... فيضطر للزحف أمامها طالبًا إليها الكف عن كشف تهافت أفكاره، وإنهاء حياته.قد لا يشعر القارئ في البدء بحماسة للرواية، لكن ما إن يغوض في مكنونها وعباراتها، يلاحظ أنها تعبّر عن فلسفة الكتاب والحياة، بل فلسفة الكاتب والقراءة، تطرح أسئلة كثيرة في عالم غامض ومتناقض، وتفلسف حركة الشفاه والفم بل وحركات اليد والقلم وعمل البطن. تمشي الكاتبة في روايتها على مبدأ «أن تكتب من دون أن تستمتع، هو أمر لا أخلاقي. الكتابة تحمل في داخلها بذور اللاأخلاقية، المتعة. وعذر الكاتب الوحيد استمتاعه». وتضيف أن «اليد هي مركز متعة الكتابة، وهي ليست وحدها».لا تفلسف نوثومب الجوع والكتابة فحسب، بل النزوع إلى القتل والى الحب، إذ تلاحظ أن المرء لسبب تافه يصبح قاتلا مأجورًا، ولسبب عابر يتحوّل عاشقًا رومنسيًّا. ربما هنا يكمن مجد الرواية وجوهرها، وهذا هو الخيال الذي يبقي الرواية على قيد الحياة، ففي «يوميّات سنونوة»، تقدّم نوثومب قضيّة الهويّة المتشظّية، ذلك عبر قصّة قاتل مأجور، يمارس القتل في مدينة باريس وضواحيها، بالموازاة مع قصّة حبّ تختلط فصولها ببعضها على يد مجنون. يقول البطل: «في القتل، بلغت أول مرة نشوة هي من القوة حتى بدا لي مستحيلاً تخيل ما هو أفضل». ويعمل القاتل مراسلاً في إحدى الشركات، لكنّه فجأة يجد نفسه بلا عمل بعد أن يطرده رئيسه من دون أيّ تعويض، إثر صدمه رجلاً عجوزاً في الطريق بينما كان ساهياً يعبر الشوارع والسمّاعات في أذنه، وأخبر المدير زملاءه بعدم تشغيله واصفًا إيّاه بأنّه خطر على العامّة... يقرّر البطل سرد قصّة حبّ فاشلة يصفها بأنّها من الغباء إلى درجة أنّه يفضّل عدم التحدّث عنها، فعدا عن عذابه كان يشعر بالخجل من عذابه. يقرّر أن يقتل أحاسيسه. يقرّر الانتحار الحسّيّ، ليبدأ بداية جديدة. يحبّ البطل القتل لأنّه يحرّره من التوتّر، يشعر بنشوة غريبة بعد كلّ عمليّة ينفّذها، تجتاحه تخيّلات تشعره باللذّة المضاعفة، يستوطنه إحساس بالوجود عندما يعدم الآخرين، ويؤكّد أنّ القاتل المأجور هو وحده مَن ينفّذ الجريمة الكاملة، لأنّه يجهل كلّ شيء عن الضحايا المكلّف بقتلهم. تتصاعد شهوة القتل لديه، فيقتل أحياناً مَن يصادفه في الطريق... يبدأ بسرد تنظيراته حول السوء، قائلاً: «الجسد ليس سيّئاً، إنّما النفس هي السيّئة. الجسد هو الدم، والدم نقيّ، أماّ النفس فهي الدماغ، والدماغ هو دهن. دهن الدماغ هو الذي اخترع الشرّ». تفرض عليه عينا سنونوة، حين نظرت إليه وهو يطلق عليها النار، هويّة جديدة. فيتحوّل إلى رومنسيّ، علاقة حب لا معقولة تنشأ من نظرة عين. يلمحها قبيل إطلاقه النار عليها: «لم أر قط شيئاً جميلاً كجمال عينيك وهما في حالة التحدي». التقاها بعد أن قتلها... أحبها بعد أن التقاها. تختصر نوثومب... تكثف أفكارها لتصل إلى منبع عملها الأساسي: «قصة حب مجنونة»، لتقول: «ينبغي عدم مقارنتك بمن حولك من الناس العاديين، أنت كنت السنونوة، وكانت طريقة حياتك الحيطة والحذر، وكان هذا يعجبني، أقر بأنني أردت ألا تشعري بالأمان، أحببت فكرة أن تخافي، أحببت أن تكوني هذا الارتعاش، أن تشعر عينك بالخوف مع أنها شجاعة، أحببتك قلقة، وربما كنت قاسياً إلى حد ما كي أبقيك في هذا الخوف الذي أردته أن يكون سرمدياً، سنونوة، ليتك تعودين إلى الحياة، أنا الذي قتلتك في أحد أيام الربيع». تذكّرنا هذه الرواية بـ{الحمامة» للروائي باتريك سوزكيند، حيث عينا الحمامة تكسر عزلة رجل لا يريد أن يعرف أحد أين مسكنه. موضوع آخر تعالجه نوثومب بحس فائق في رواية «ذهول ورهبة» وهو الشخصية اليابانية بعيون أوروبية، رواية عن دكتاتورية الشركات اليابانية بأسلوب نوثومب المعهود، رواية تأتي كمعاينة تقوم بها الروائية عن قرب لنظام يسود بلداً يقع أقاصي الشرق، هي معاينة يفترض أن تكون غير مصحوبة بدهشة تصل حدود الصدمة من نوثومب، ذلك أنها ولدت في اليابان عام 1968 وعاشت طفولتها هناك. تلك المعاينة ذاتها أمنت لها اكتشاف فجوة حاصلة بين الثقافة اليابانية التي تأثرت بها الروائية وأحبتها بصدق، وبين نظام عمل وطريقة عيش المجتمع الياباني، وهنا مكمن الالتباس وسوء الفهم الذي سيطر على الروائية: «عندما كنت طفلة فتنني جمال عالمي الياباني إلى درجة أني ما زلت أعيش على هذا المخزون العاطفي، فأمام ناظري الآن تتجسد الفظاعة المهنية لنظام ينكر كل ما أحببته، وعلى رغم هذا أظل وفية لتلك القيم التي لم أعد أؤمن بها». هذه الرواية بمثابة نقد ساخر للمجتمع الياباني عموماً، ولعلاقات العمل في شركة يابانية خاصة. تشد الكاتبة من خلال هذا النقد القارئ حتى آخر كلمة في الكتاب كما ترى المترجمة. ففي بداية عام 1990 تُعين الشخصية الرئيسة في شركة يابانية تدعى «يوميموتو»، إحدى أكبر الشركات اليابانية. وتكتشف شيئًا فشيئًا السلطة الصارمة، بل القاسية لنظام عمل الشركات هناك. وفي الوقت نفسه تكتشف الأعراف التي تحكم ذلك البلد الشرقي والتي تبدو أنها غريبة. بل وعجيبة بالنسبة إلى غير الياباني. أو لمن لا يعيش في اليابان. نتيجة خطأ في البداية، ثم بسبب تصرف أخرق، وبعد فشلٍ بمهمة، يبدأ كابوس سقوط البطلة المهني درجة درجة في هذه الشركة حتى تبلغ الإهانة أوجها في تسلّمها، على رغم مؤهلاتها العالية، وظيفة منظِّفة مراحيض. تقول: «نظافة الحمامات لا تكون إلا مع نظافة العقل، ولكل أولئك الذين لا بد من أن يعتقدوا أن رضوخي مشين أمام قرار حقير، يجب أن أقول ما يلي: إنني، أبدًا ولا في أي لحظة طوال تلك الأشهر السبعة لم يخالجني إحساس أني قد أهنت، فمنذ أن تلقيت هذا التعيين الغريب دخلت في بعد آخر للوجود: هو عالم السخرية لا أكثر ولا أقل، وأعتقد أني وقعت فيه تحت تأثير منعكس. وفي الحال أصبح القذر بالنسبة إلي نظيفًا، والعار مجدًا، والجلاد ضحية، والكريه مضحكًا. تنقّلها الوظيفي لم يكن تصاعديًا وإنما باتجاه الهبوط نحو أكثر درجاته انحطاطًا وإهانة، لم يكن السبب لعدم كفاءة مهنية، بل بسبب كيد رئيستها فوبوكي موري ومكيدتها، وبسبب أنظمة وتقاليد عمل تحكم ذاك المكان لا سبيل إلى الفكاك منها. إنها قدر من تطأ قدماه تلك الشركة ولا يكون يابانيًا. تعتبر المترجمة أن الرواية تنطوي على لهاث عبثي نحو الهاوية، كما يحدث في الحياة، فتصوره نوثومب بحسها الساخر المرح الذي يتجلى على مدار الرواية. ومن دون أي حرج أو مواربة لا تخبئ الروائية ذاتها، إنما تظهرها بوضوح مراراً، مصرحةً باسمها، وذاكرة وقائع حياتية تخصها هي تحديدًا، كتفصيل الحديث عن أولى رواياتها التي كانت بعد عودتها من اليابان إلى أوروبا، ذاكرة أنها بدأت آنذاك كتابة مخطوطة «نظافة قاتل» المنشورة عام 1992.زئبقنقرأ في رواية «زئبق» لنوثومب ظروف حياة فتاة يحتجزها رجل مسن في جزيرة معزولة، عن طريق «خدعة» تنطلي عليها، فتجد في العجوز حامياً لها، وقد وفّر لها عزلة مثالية في قصره، كي لا تضطر إلى مواجهة البشر، مع عاهتها المخيفة. مراهقة في الثامنة عشرة، يحتجزها عجوز في السابعة والسبعين في حصنه. هكذا تنشأ علاقة حب معقدة حقاً بين طرفين متباعدين سنًا ونشأةً ورؤيةً، والحب هنا من قبيل المجاز، إذ يقع القبطان «مصعوقاً في غرام الفتاة الفائقة الجمال التي يعثر عليها شبه ميتة إثر وفاة والديها في إحدى مجازر الحرب العالمية الأولى. وإذ يشعر بأن فتاة بذلك الجمال لا يمكن أن تبادله الحب، يعمد الى إيهام الآخرين بوفاتها ثم ينقلها الى جزيرة صغيرة قبالة الشاطئ الفرنسي حيث يمكنه عزلها عن البشر جميعاً، ولم يكن ليتم له ذلك لو لم يلجأ الى خديعة أخرى حيث يقنع هازيل بأن وجهها قد تشوّه بشكل فظيع وأن أحداً سواه لا يمكنه أن يقع في غرامها، ثم يعمد الى إخفاء المرايا لئلا تكتشف الفتاة حقيقة جمالها، الأمر الذي مكّنه من كسب ود هازيل، ومن رضوخها ولو مكرهة إلى رغباته».هذا هو عالم أميلي نوثومب باختصار... إنها روائية الغوص في أعماق النفس البشرية، تبتكر قصصاً فيها شيء من الإمتاع وتستحق القراءة.نبذةولدت أميلي نوثومب في 13 أغسطس (آب) سنة 1967 في مدينة كوب في اليابان، وتأثرت بعمق بالثقافة اليابانية. تحدّرت من عائلة عريقة في مدينة بروكسل. كان والدها سفير بلجيكا في روما، وحملتها تنقلاته إلى الصين ونيويورك وجنوب شرق آسيا، مخلِّفة في نفسها شعوراً لا يمحى بالوحدة.عادت الكاتبة إلى بلجيكا في السابعة عشرة من عمرها، حيث تابعت تحصيلها في دراسة اللغات اليونانية اللاتينية. وفي عام 1992 حازت روايتها الأولى «نظافة قاتل» نجاحاً كبيراً.رجعت نوثومب إلى اليابان لتسطّر تجربة فريدة في روايتها «ذهول ورعشة» التي تُوِّجت عام 1999 بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية، واقتبس منها فيلم عام 2003 كما حدث لروايتها الأولى. ومنذ ذلك الحين تواصل نوثومب إصدار رواية سنوياً. رواياتها نجاحاً باهراً، من بينها: «ما قبل كريستا» - 2003، و{بيوخرافيا للجوع» - 2004، و{حامض كبريتي» - 2005، «يوميات سنونوة» - 2006، وأخيراً «لا من حواء ولا من آدم» - 2007. تتصف مواضيع نوثومب، كما يتضح من عناوين كتبها، بالتجديد والخيال، وكلماتها بالحساسية والعمق والصدق، وأسلوبها بالأناقة والمرح. ولعل أكثر ما اشتهرت به هذه الكاتبة هو انتقاؤها كلمات وصوراً نادرة ومبتكرة، تعكس غنى في اللغة وسعة في الثقافة وجرأة بالطرح.إميلي نوثومب أحد أكثر الكتاب الأوروبيين شهرة وأعمالها تندرج ضمن أكثر الكتب قراءة ونجاحاً منذ عقد ونيف.
توابل
الروائيّة أميلي نوثومب... اليد مركز متعة الكتابة
31-05-2010