حسبنا أن نقول هنا إن للدولة السيدة أن تحظر تعدد الزوجات وتسوي بين الجنسين في الشهادة وفي حق الطلاق... إلخ، دون أن يكون ذلك «تحريما لما حلل الله». الدولة لا تحرم ولا تحلل، بل تحظر أو تمنع وتبيح.

Ad

يتوزع مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الجديد على أحد عشر «كتابا»: أحكام عامة، الزواج (الخطبة، أركان عقد الزواج، المجرمات من النساء، تعدد الزوجات...)، آثار الزواج (حقوق الزوجين، المهر والجهاز، المسكن، النفقة...)، انحلال الزواج (الطلاق، المخالعة، التفريق للعان وللإيلاء وللظهار، فسخ النكاح...)، آثار انحلال الزواج (آثاره في الزوجية، أحكام العدة...)، الولادة ونتائجها (النسب، حقوق الأطفال، الحضانة، الرضاع...)، الأهلية والنيابة الشرعية (تصرفات القاصر، الوصاية على ماله، القوامة، مرض الموت...)، الوصية (أحكامها، تزاحم الوصايا، بطلان الوصية...)، الوقف (نوعه، شرائطه، علته، إدارته...)، التركات والمواريث (أنواعه، الحجب، الرد...)، وختاما أحكام خاصة بالدروز والمسيحيين واليهود.

وبينما ليس ثمة ما يبهج القلب في استعراض مواد المشروع التي تكاد تتفاخر بالتمييز بين الجنسين، إلا أنه لا مناص من ذكر بعضها.

يتكلم المشرع على المرأة كـ«موطوءة» (المادة 58، والمادة 266)، رغم أنه يستخدم تعبير الزوجة مرارا، كأنما يريد أن يضع ختمه «الشرعي» على المشروع. الكلمة تتضمن تصورا للعلاقة بين الرجل والمرأة لم يعد العالم الدلالي الذي يندرج فيه مزامنا لنا أو مستساغا. هل يتفق «الوطء» مع «المودة والرحمة»؟ أشك في ذلك في الماضي. أما اليوم فهو قطعا يتعارض.

ولا يخطر ببال المشروع إطلاقا تقييد تعدد الزوجات. يفترضه شيئا مسلما به، وإن كان حسه بالعدالة ينفر من أن يتزوج الرجل خامسة دون أن يطلق واحدة من زوجاته الأربع! ويرتب للزوج حقوقا على المرأة بينها صيانة نفسها وإحصانها، وطاعة الزوج بالمعروف، وإرضاع الأولاد عند الاستطاعة (كأن أي أم تحتاج إلى قانون من أجل ذاك! المادة 98)، لكنه لا يوجب على الزوج إحصان نفسه (هل هذا تشجيع على «الزنا»؟)، ولا مشورة زوجته، كيلا نقول طاعتها؛ ويجعل من «زيارة أهلها واستزارتهم بالمعروف» رهن «سماح» الزوج لها بذلك. على أن المشروع يوجب على الزوج ما هو مستحيل إنسانيا: «العدل والتسوية بين الزوجات»! (المادة 99)

وتصدر المواد التي تتكلم على عقد الزواج والمهر والجهاز والنفقة (من 94 إلى 150) عن روح حيسوبية تجارية مدققة شحيحة، لا قرابة بينها وبين الأريحية والسخاء والحب والمجانية. في واقعه الزواج اليوم أفضل بكثير من هذا المشروع الذي لا يقول إن الأصل في الزواج هو المودة والرحمة والمحبة والثقة، وأن المقصود من الكلام على عقود وشروط هو تدارك الاختلالات المحتملة.

ويميز المشروع بين طلاق بإرادة الزوج، ومخالعة بإرادة الزوجين، وتطليق أو فسخ بحكم قضائي.. (المادة 164)، لكنه لا يتضمن طلاقا بإرادة الزوجة. وفي غير شأن، يجعل المشروع شهادة الرجل بشهادة امرأتين (صحة عقد الزواج، إثبات النسب...).

وفي المادة 41 يضمن المشرعون البند التالي: «إذا اشترطت المرأة في عقد النكاح ما يقيد حرية الزوج في أعماله الخاصة أو يمس حقوق غيرها كاشتراطها عليه ألا يتزوج زوجة أخرى، أو أن يطلق ضرّتها أو تكون العصمة بيدها بشكل مؤقت أو دائم، كان الاشتراط صحيحا ولكنه ليس ملزما للزوج، فإذا لم يف الزوج به فللزوجة المشترطة طلب فسخ النكاح»! مذهل! أولا في إباحة المشرعين الكذب للزوج. وثانيا في انعدام حس العدالة عندهم (الأصل فيه تبعية الأخلاق للشريعة أو عدم استقلال الضمير). وثالثا في ضرب متواتر في المشروع من الفظاظة والشوفينية الذكورية، يبلغان هنا حد الصفاقة. أليس العقد شريعة المتعاقدين أيها السادة الفقهاء؟ فكيف يكون الاشتراط صحيحا، لكن غير ملزم لمن وافق عليه، ويباح له أن يخرقه؟ عجيب!

في المحصلة، «الإنسان الكامل» في المشروع هو الرجل المسلم السني المديني من الطبقة الوسطى أو شرائحها العليا. وربما يشبه هذه الإنسان الكامل واضعي المشروع، الذين يتكون انطباع بأنهم خمسينيون فما فوق، من طبقة وسطى تجارية، متزوجون من نساء من طبقتهم، ولكل منهم أمواله المستقلة، ولديهم خامات في بيوتهم.

قد يكون الأصل في نكوص المشروع عن واقع المعاملات التي تقع في نطاق الأحوال الشخصية هو تمركزه حول «الشريعة»، وغربته عن مفهومي الدولة والمواطنة. ولعل الأصل في هذا الأصل ذاته هو عدم أخذ علماء الشريعة علما بوقائع تحول السيادة من الأمة الدينية على الأمة السياسية في الزمن المعاصر، وقيام كيان سورية أصلا ومنذ المبدأ على مفهوم أمة المواطنين المتساوين. لكن يبدو أن «الدولة» ذاتها ليست على علم بهذا التحول. أو لنقل بوضوح أكبر إن الدولة بحكم الملابسات التاريخية لتكونها من جهة وتكوين نظم الحكم المستولية عليها من جهة ثانية عاجزة عن احتكار السيادة وما يقتضيه من ضمان المساواة الحقوقية (بين الجنسين وبين عموم السكان على اختلاف عقائدهم الدينية) والمساواة السياسية بين المواطنين الأحرار.

سنتوسع في هذا الشأن في حيز آخر. حسبنا أن نقول هنا إن للدولة السيدة أن تحظر تعدد الزوجات وتسوي بين الجنسين في الشهادة وفي حق الطلاق... إلخ، دون أن يكون ذلك «تحريما لما حلل الله». الدولة لا تحرم ولا تحلل، بل تحظر أو تمنع وتبيح. سندها في التشريع هو اعتبارات تتصل بالمواطنة والاستقرار الاجتماعي والتنمية، مما لا يسع الدين أخذه في الحسبان. وهذا لا يفتئت على حق من يشاء من المؤمنين بالانضباط بما يعتقد أنها الشريعة (لا ننكر أنه تنشأ عن ذلك مواقع احتكاك، تحتاج إلى تفكر ورويّة وحسن نية).

في بنية المشروع الذي بين أيدينا تمييز متعدد المستويات بين السكان، ينبع من أسسه العقدية بالذات. لا إصلاح له على الأسس نفسها. المطلوب تغيير النموذج المرشد أو «الباراديغم» باتجاه قانون مدني للأحوال الشخصية قائم على المساواة. ويبدو لنا، خلافا لجميع الآراء التي تناولت المشروع، أن هذا يقتضي طيا نهائيا لصفحة العلاقة الراهنة بين الدين والدولة، والتي تقوم على صفقة تتنازل الدولة بموجبها عن المساواة بين السكان ويتخلى الدين عن تطلعه لاحتكار السيادة. بيد أن هذا حديث يطول.

* كاتب سوري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء