عاشت آردي قبل 4.4 ملايين سنة في غابات شرق أفريقيا. أمضت معظم أوقاتها على الأشجار. بلغ طولها نحو 1.22 متر ووزنها 50 كيلوغراماً تقريباً. كانت يداها طويلتين، وقدماها قصيرتين تفردتا بإصبع كبير طويل بدا ممتازاً للتنقل من غصن إلى آخر. واعتادت تناول طعامها وتربية أولادها والنوم في الأشجار.لكنها نزلت أحياناً إلى الأرض ووقفت منتصبة. كان بإمكانها السير على قدمين. وبذلك كانت تخطو الخطوات الأولى، إذا جاز التعبير، على درب سيؤدي إلى تغيير العالم. آردي لقب هيكل عظمي مهشّم ومميز، يعتقد فريق دولي من العلماء أنه يشكّل تقدماً مذهلاً في دراسة أصل الإنسان. نُبشت بقاياه بدقة من الصحراء الإثيوبية، فضلاً عن عظام ما لا يقل عن 35 فرداً من نوع يدعوه العلماء أرديبيتيكوس راميدوس Ardipithecus ramidus. أدت البحوث، التي تناولت هذا الجنس طوال 15 عاماً، إلى إصدار تقارير أولية أخيراً على موقع مجلة Science الإلكتروني، فضلاً عن مؤتمر صحافي مزدوج في واشنطن وأديس أبابا بإثيوبيا.لم تشارك كارول وارد، عالمة متخصصة في أصول الجنس البشري في جامعة ميسوري، في هذا البحث. لكنها حصلت على المعلومات اللازمة كي تتمكن من تقديم تقييم مستقل. تذكر وارد: {هذا اكتشاف كبير. إنه الأبرز منذ العثور على هيكل لوسي العظمي في سبعينات القرن العشرين}.تشكّل أصول الإنسان حقلاً تكثر فيه الاحتمالات وتندر فيه العظام. وقد يؤدي البحث المتقن لأرديبيتيكوس إلى إطلاق مناظرة بشأن الرسالة التي تحتويها هذه الأحافير الهشة جداً إلى درجة أن العلماء اضطروا إلى استخراجها مستعينين بأداوت طبيب الأسنان وأشواط حيوان الشيهم. وإذا كان العلماء الذين عثروا على آردي محقين، تكون الأخيرة بالتالي حلقة انتقالية تكاد تكون هجينة. فهي كائن عاش في الأشجار وتمكن من حمل الفاكهة بيديه فيما تفقد أرض الغابة سيراً على قدميه.عاشت آردي قبل لوسي بمليون سنة. لوسي اسم أعطي لهيكل عظمي عمره 3.2 ملايين سنة عُثر عليه في عام 1974 ويُعتبر أفضل مثال على أسترالوبيثكوس أفارنسيس Australopithecus afarensis، كائن صغير الدماغ اعتاد استعمال قدميه بالكامل ووسّع موطنه إلى ما وراء حدود الغابة، متجولاً في البراري الأفريقية.بخلاف آردي، تفتقر لوسي إلى الإصبع الكبيرة التي تمتد من جانب القدم. فإصبعها تتجه نحو الأمام وتتماشى مع الأصابع الأخرى. وهي تستخدمها لتدفع جسمها إلى الأمام. علاوة على ذلك، تختلف أسنان آردي عن أسنان لوسي، بما أن أضراس الأخيرة تتلاءم مع نمط غذاء أكثر تنوعاً في البراري. لكن وجهيهما وجمجمتيهما وأيديهما وحوضيهما بدت متشابهة كثيراً.لا يجزم العلماء الذين عثروا على آردي بأنها تطورت بالضرورة إلى لوسي، أو أن أرديبيتيكوس راميدوس هو بالضرورة سلف مباشر للإنسان. فمن الممكن أن عائلات الرئيسيات البشرية تجزأت إلى أنواع متعددة خلال عملية التطور ووصل بعضها إلى حائط وراثي مسدود. وإذا صح ذلك، تكون آردي أحد أقرباء الجنس البشري البعيدين لا أحد أسلافه المباشرين.يوضح تيم وايت، عالم متخصص في أصول الجنس البشري في جامعة كاليفورنيا في بركلي أشرف على البحث: {هل تشكل هذه الأنثى، آردي، أحد أسلافنا؟ الإجابة {لا} على الأرجح. فإذا لم تُرزق بأي أولاد، ففي هذه الحالة يكون حظها عسراً ولا تُعتبر سلفاً لأحد}.لكن فريق آردي يبرهن أن الجنس أرديبيتيكوس، الذي قد يضم أنواعاً عدة، سلف للجنس أسترالوبيثكوس. لذلك، تطورت بنية جسم آردي العامة إلى بنية جسم لوسي العامة. وهكذا دواليك إلى أن ظهر الجنس البشري.يذكر وايت: {أدى الجنس أرديبيتيكوس إلى الجنس أسترالوبيثكوس، على رغم أننا لا نستطيع أن نجزم أي أنواعه تطور، ربما أرديبيتيكوس راميدوس. لكن المؤكد أن نوعاً شبيهاً براميدوس هو الذي تطور}.لحظة حاسمةعثر وايت وزملاؤه على الإشارات الأولى إلى الجنس أرديبيتيكوس في عام 1994 في ما يُعرف بأواش الأوسط، صحراء خالية من الأشجار كانت قبل أربعة ملايين سنة أكثر رطوبة. فعجت بالطيور والزواحف والرئيسيات (Primates)، وكثرت فيها أشجار التين والنخيل. حلّت اللحظة الحاسمة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1994، حين عثر أحد طلاب الدراسات العليا في بركلي، يوهانس هايل سيلاسي من إثيوبيا، على أجزاء من عظام إصبعين. وكشفت عمليات النبش الإضافية عن بقايا حوض وقدمين ويدين وبعض أجزاء جمجمة. بحلول شهر يناير (كانون الثاني) عام 1995، أدرك العلماء أنهم وقعوا على كنز في علم أصول الجنس البشري حطمه الزمن وهشمه. وهكذا ظهرت آردي.حصل العلماء على مجموعات كبيرة من العينات من الذكور والإناث، على رغم أن العظام كانت بمعظمها متفرقة ومعزولة. صحيح أن الاسم أرديبيتيكوس دخل بسرعة مفردات علم أصول الجنس البشري نحو منتصف تسعينات القرن العشرين وأدرك العلماء أن هذا على الأرجح اكتشاف كبير، لكن وايت وزملاءه لم يقدّموا وصفاً دقيقاً لهذا النوع إلا قبل أسابيع قليلة بعدما اشتكى بعض العلماء من أن هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً.يخبر أوين لافجوي، عالم متخصص في أصول الجنس البشري من جامعة كنت الحكومية شارك في فريق آردي: {تعطي آردي معلومات تفوق ما قدمته لوسي بأشواط. ففي هذا النموذج، نملك اليدين والقدمين وبيئة أكثر تكاملاُ وهيكلاً عظمياً شبه مكتمل. كذلك تُعتبر آردي أقدم وصِلَتها بالرئيسيات أوضح. إنها تظهر عملية التحول من سلف عادي إلى فصيلة القردة العليا}.يؤكد العلماء ألا مجال للشك في أن أصل الجنس البشري تطور من الرئيسيات الباكرة. حتى عندما كانت السجلات الأحفورية في أفريقيا شبه معدومة، حاجج داروين قائلاً إن البشر تطور على الأرجح من رئيسيات أفريقية. وبرهن العمل الميداني خلال القرن الماضي هذه النظرية التي تعززت بفضل تحاليل شفرة البشر وحيوانات الشمبانزي الوراثيّة المخبرية. لكن التفاصيل الدقيقة عن أصل الإنسان تصير أكثر غموضاً وعرضة للتأويل والجدل مع تعمق الباحثين في الماضي، إذ تصبح الأحافير نادرة ومجزأة وأحياناً أكثر عموضاً.يواصل العلماء بحثهم عن {آخر سلف مشترك}، أي الكائن الذي ترجع إليه أصول البشر والشمبانزي على حد سواء. يعتقد باحثون كثر أن هذا السلف المشترك عاش قبل سبعة ملايين سنة. ويشير البحث الجديد الذي أجري على آردي أن هذا السلف لم يبدُ شبيهاً بالشمبانزي بقدر ما كان متوقعاً. على العكس، كان أقرب إلى أرديبيتيكوس. ويُظهر هذا الأمر أن الشمبانزي ليست آلة زمنية ترجعنا إلى الماضي البعيد، بل تطورت أيضاً إلى حد كبير، مكتسبة مهارات مثل التأرجح على الأغصان والسير مستعينة بأصابع يديها.يوضح لافجوي: {كان السلف المشترك يشبه آردي. فالشمبانزي أو الغوريلا تطورا كثيراً، بخلاف القردة العليا التي حصرت تطورها في مجالين: السير منتصبة والدماغ. أما الأوجه الباقية فظلت بدائية جداً}.في جنس أرديبيتيكوس، يبدو الذكر مختلفاً كثيراً في الحجم عن الأنثى. كذلك يفتقر إلى الأسنان الشبيهة بالخناجر التي يستخدمها ذكور الشمبانزي ليتقاتلوا في سبيل الحصول على الإناث الجاهزة للتزاوج. ويؤكد لافجوي أن هذه إشارة إلى تنظيم اجتماعي مختلف. فكان الذكر، على حد قوله، يرتبط بالإناث ويؤمن لها الطعام. ولا شك في أن نقل الأكل صار أسهل بفضل قدرته على المشي منتصباً. ويرى لافجوي في دور أبوة الذكر في استمرار المتحدرين منه علامة دامغة للسلالة البشرية. ويضيف، مؤكداً نظرية طرحها قبل وقت طويل من اكتشاف آردي: {لم تبدأ طريق التحول إلى بشر مع دماغ كبير، بل بدأت مع توافر الظروف الاجتماعية التي تتيح توسع الدماغ الكبير}.يوضح أندرو هيل، خبير متخصص في علم الإنسان في يال، أنه لا يعتقد أن الأدلة كانت كافية لدعم خلاصات لافجوي عن علاقة وثيقة بين ذكر هذا الجنس وأنثاه. لكنه أضاف أن هذا النوع من القردة العليا الذي وُصف حديثاً {يكفي} لتعزيز {الأدلة المتراكمة على أن هذه الأشياء ربما تطورت وعاشت حقاً في الغابات بدل البراري}.يفيد ديفيد بيلبيم، عالم متخصص في أصول الجنس البشري من هارفارد، أن المجتمع العلمي فَقَد صبره فيما كان وايت وزملاؤه يحللون أرديبيتيكوس. لكنه يذكر أن الانتظار استحق العناء، مضيفاً: {هذا إنجاز مذهل... ولا شك في أنه سيبقي الآخرين منشغلين طوال 15 سنة أخرى}.لا تشبه آردي البشر لا من قريب ولا من بعيد. كان رأسها صغيراً مقارنة بحجم جسمها. وما من سبيل إلى قراءة أفكارها وقياس إدراكها لنفسها ووعيها لمكانتها في الكون. لكن إذا صدق العلماء، يتبين أن مسيرتها في الحياة أثمرت بمرور الوقت وشهد الكوكب ظهور حيوان جديد أمكنه الركض على قدميه، اختراع المعدات، التحكم في النار، فهل في النهاية، بعد البحث والتحليل، يستطيع العلماء حل لغز أصوله.
توابل - EXTRA
هيكل آردي العظميّ... هل كشف أسرار أصل الإنسان؟
08-10-2009