ليس الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو بغريبٍ عن الجوائز الأدبية فهو حصد في ريعان شبابه الثالث والأربعين (1963) جائزة "رونودو" عن عمله le Procès verbal (المحضر الرسمي)، ليظفر بعد فترةٍ وجيزة بجائزة "بول موران" عن عمله (Le Désert الصحراء- 1980)، ويُنتخب في العام 1994 أهمّ روائي حيّ يكتب باللغة الفرنسية.

Ad

ولكن لجائزة "النوبل" نكهة مختلفة خصوصاً أنّها تمنح بعد بلبلةٍ غامضة وهمساتٍ سرية تُتداول فيها أسماء الطامحين الى قهر الموت بإبداعٍ يأبى الوداع.

والكاتب الفرنسي الجنسية، البريطاني الوالد والمولود من أمٍ ترعرعت في "جزر موريس" يحمل في حناياه بذور الروائيّ الرحالة. فسيرة لو كليزيو الذي بلغ نُضجَ الثامنة والستين سلسلةٌ لا متناهية من أسفارٍ إنّما سمحت له باكتشاف ذاته، فهو في الثامنة التحق بوالده في نيجيريا، ثم قصد انكلترا، ليؤدي في ما بعد خدمته العسكرية في بانكوك عام 1967، ويحطّ رحاله بعد حين في المكسيك حيث أسره تراث الهنود الحمر فشاركهم حياتهم وترجم لهم نصوصاً تحكي تاريخهم القديم، وينتقل لاحقاً الى جزر موريس ورودريغيز حيث كتب روايتين حصدتا نجاحاً باهراً le chercheur d’or (الباحث عن الذهب- 1985) وVoyage à rodrigues (أسفار الى رودريغيز- 1986).

وهو أسوةً بالأدباء جميعاً مغامرٌ جريء: "حين بدأت الكتابة، يقول لو كليزيو، كان هدفي نقل القصص فحسب، ولكنني سرعان ما أدركت أنني أكتب لسببٍ واحد: أن أعرف من أنا بحثاً عن المغامرة".

ولو كليزيو في شبابه ومشيبه في ترحالٍ دائم، في قلقٍ من "المدينية" القاحلة، كبدويّ غادر للتوّ صحراءه الدافئة الى فضاء مدنٍ باردة تدبّ في أوصاله خوفاً خانقاً من المجهول. وفي بداياته التي شهدت انتاجاً تخطى العشرين مؤلفاً ثمة خيط رفيع يربط كتابته بكتلةٍ واحدة يتيمة المعالم: العدم. ففي روايته "تيرا أماتا" (1967) عالمٌ مجرّدٌ قوامه الأرض والشمس والحيوانات، حياةٌ لا طيف فيها لآدميّ، وفي Extase Materielle (نشوة مادية) حكايات حول حقبة "لم يكن مولوداً فيها" أما في Voyages de l’autre côté (أسفار من الجهة المقابلة- 1975) فرحلاتٌ تنتهي ببطله الى أراضٍ مجرّدة من العشب والأشجار والبشر. إنّها أرض اللاشيء، يحتفي الكاتب بـ"صحرائها"، حيث ليس من معنىً لأي أمرٍ، حيث تنتفي الأنواع والأشكال ليولد مزيجٌ متناقض من عدمٍ وحياة يحيا فيه الانسان في انسجامٍ مقدّس مع عالمه ومفرداته. هنا في هذه الصحراء اللامتناهية تولد "اللغة" كظاهرةٍ تجبلها السماء لتعبر فينا جميعاً كما تعبر الحياة إلينا من موجاتٍ تحيط بنا.

وفي تمهيده لروايته Haï يبوح لو كليزيو كيف أشفت روايته غليله من الادراك: "في اللحظة عينها التي أختم فيها روايتي هذه، أُدرك أنّها تمخّضت، من حيث لا أدري، من احتفاليةٍ سحريّة بشفائي... لعلّنا نكتشف ذات يوم أنّ الفنّ لم يكن موجوداً أبداً ، إنّما كان "طِباً" يُشفي أرواحنا".

وفي رواياته الأخيرة التي وضعها في نهاية التسعينات Hasard (صدفة 1999) وتلك بعد الألفين على غرار l’Africain (الافريقي- 2004) وRitournelle de la faim (لازمة الجوع-2008) وبعد ما يربو على الثمانية وثلاثين مؤلفاً ما زال الهاجس نفسه يطارد الراوي: أسفارٌ ومغامراتٌ تحكي الرحيل ومرحلة الانتقال من الطفولة الى المراهقة بلغةٍ غامضة ذلك أنّ لو كليزيو يمقت الوضوح ويرى فيه رديفاً للموت "لطالما رغبت في وضع كتابٍ يكون بوضوح الحياة، لكنني لم أفلح في تلك المغامرة. وحدها الحياة المعيوشة بسيطة فما أن يتسلّل الأدب إليها حتى يرمي غباراً في عيوننا. الكتابة تُعميني وأجدني هنا من مؤيدي العمى!".