لم يوجد من نزاع كانت فيه السياسة الأدنى فعلا وتأثيرا أكثر من ذلك، إذ لا تقوم تلك (أي السياسة) وسيطا دون العنف السافر، تدرأه وتهذبه وتداوره وتؤنسنه، تعقلنه بكلمة واحدة، وقد تستوي عنه بديلا، على ما قد يكون تعريفها المعتاد والساري في كل شأن محلي أو دولي، ولكن العنف ذاك، كما نراه في غزة مثلا لا حصراً منذ أن تأسس باغتصاب فلسطين، يتولى إدارة الظهر للسياسة وينكرها ويحيّدها.

Ad

وهكذا، إذا كان العنف، أي الحرب، استمراراً للسياسية، على ما يُقرّ قول مشهور، فهو في حالة النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي محض إبطال لها، عودة إلى نقطة الصفر، إلى مرتبة ما قبل سياسية، وهو لذلك عنف يعود إلى ما قبل «المدنية»، والأخيرة مجالها السياسة بداهة. عنف بدائي، بدئي «أنثروبولوجي»، لا يتميز عن السوية تلك إلا بامتلاكه، من جانب الدولة العبرية، أقصى أدوات الفتك، في حين أنه يتماهى معها مبدأً ومنطقا. لعل الملاحظة تلك هي ما يعلل ذلك الدمار القيامي المطبق منذ أكثر منذ ثلاثة أسابيع على قطاع غزة، وطابعه المغالي والمسرف، المتخطي، بأشواط بعيدة بالغة البعد، للمشكلة التي يزعم «علاجها». إذ ليس في تلك المشكلة ما لم يكن بوسع مقاربة سياسية أن تحتويه. فحركة «حماس»، إذ أطلقت صواريخها التي لا تؤذي بعد «التهدئة»، لم تكن تخوض حربا شاملة، وإن على نحو رمزي، إذ لو أرادت ذلك لتوخت وسائل أخرى، شأن العمليات الانتحارية، ولكنها رمت على الأرجح إلى إعادة التفاوض حول تلك التهدئة التي استثنت في صيغتها المنتهية مسألة الحصار، المتمادي جائرا فتاكا. لاذت حركة «حماس» إذن، ومهما كان الرأي في سياساتها وبالرغم من كل ما قيل عن أخطائها، بعنف محدود «تحريكي»، رديف لمطلب عينيّ، محدد، أي سياسي في نهاية المطاف، يشخص نحو ضرب من ضروب التفاهم، لا يستبعده بل يسعى إليه. قد يناقض المسعى ذاك اعتبارات كثيرة وقد يصطدم بها، شأن تمكين حركة «حماس» من موقع ومن منزلة الطرف المعترف به أو «الشريك»، أو قد يستوي إقرارا بضرب من الازدواجية، على صعيد مسؤولية النطق باسم الفلسطينيين وعلى المستوى الدولي، وما إلى ذلك مما قد يثير الحنق ضد التنظيم الإسلامي الفلسطيني، من توجهه الإيديولوجي إلى تحالفاته الإقليمية، ولكن ليس في كل ذلك ما من شأنه أن يستبعد المعالجة السياسية، على نحو مباشر أو بالواسطة، وألا يترك من مجال غير الحسم بواسطة العنف الأقصى واللجوء إلى الحرب الشاملة، على ما فعلت إسرائيل طيلة الأسابيع الأخيرة في قطاع غزة. وهكذا قد لا تعدو الحرب تلك، بهذا المعنى، أن تكون المثال الأخير زمنا والأبعد شأوا، عن «ثابت» إسرائيلي مقيم منذ لحظات التأسيس الأولى، ذلك المتمثل دوما في العودة بالصراع إلى سمته الأولى أو البدئية، إلى عيشه بوصفه تأسيسا مستمرا، لا يندرج في تاريخية له اكتسبها بمرور الزمن، أو أنه لا يُقبل على التاريخ إلا على نحو أحادي الجانب، إنجازا لمشروع لم يؤل إلى اكتمال، يرى نفسه قيد الاجتراح كما في لحظاته الأولى، وهذا لا يستقيم، طبيعةً، بالفلسطيني، بل بإلغائه، والعنف هو وسيلة ذلك الإلغاء، المبرم الناجز. وما تفعله الدولة العبرية مع «حماس» اليوم، وجودا ومؤسسات ومظاهر وجود، هو عين ما اقترفت، وإن مع بعض فارق كمّي، مع السلطة الوطنية وزعيم الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات أثناء الانتفاضة الثانية. قصارى القول من كل ذلك أنه ليس صحيحا أن الفلسطينيين، والعرب استطرادا، هم الذين لا يمتلكون سياسة حيال إسرائيل، لفرط انجرافهم وراء الإيديولوجيات والشعارات والعواطف الجياشة، ولعدم قدرتهم تاليا على عقلنة الصراع، على ما يقال عادة، إذ ليست محاولات التسوية منذ بدئها وحتى المبادرة العربية العتيدة غير استدخال لمعطيات فرضتها ملابسات النزاع ونجمت عن تاريخه، بل هي الدولة العبرية التي تمتنع، في تعاطيها مع الشأن الفلسطيني، عن كل سياسة وعن كل مقاربة سياسية. ففعل الاغتصاب، وما يلابسه إنكارا للطرف الآخر، لايزال قائما ولايزال الحقيقة الأولى التي يُصار إلى استعادتها عودا على بدء، حاجزا دون السياسة، من خلال ذلك العنف الأقصى وبواسطته. يصبح، والحالة هذه، ثانوي الأهمية بل عديمها، الطرف الفلسطيني المقابل، هويته وطبيعته، وإلى أي تيار انتمى. لا خصوصية إذن لحركة «حماس»، ولقطاع غزة الواقع تحت سيطرتها، في تاريخ القضية الفلسطينية، مما قد يجعل الكثير من النقاش الدائر نافلا غير ذي موضوع. إذ هو الامتناع الإسرائيلي ذاته عن السياسة، يكابده «المعتدلون» كما «المتطرفون».

 

* كاتب تونسي