يقتضي تحدي المفاوضات المرتقبة بين واشنطن وطهران أن ترتب الأخيرة أوراقها وبيتها الداخلي لمواجهة الاستحقاق الأهم في تاريخ «جمهورية إيران الإسلامية»، وذلك عبر تثبيت وابتكار توازنات داخلية جديدة تسمح لهذه المفاوضات بالانطلاق والنجاح، وتسحب من أمامها العوائق الإيديولوجية والمؤسسية.

ويبدو أن وقت ترتيب البيت الداخلي الإيراني استعداداً للاستحقاقات الإقليمية والدولية قد حان الآن، إذ يذهب فوز الشيخ هاشمي رفسنجاني برئاسة مجلس الخبراء قبل أيام مؤشراً واضحاً على ذلك، ويسمح منصب رئيس مجلس الخبراء لصاحبه أن يمسك أوراقاً قوية في تركيبة السلطة الإيرانية، حيث يملك هذا المجلس انتخاب مرشد الجمهورية، أعلى منصب في البلاد، مثلما يملك عزله من منصبه. تقلب علي أكبر هاشمي رفسنجاني في كل المناصب العليا للدولة الإيرانية باستثناء منصب واحد فقط هو منصب المرشد، حيث تولى رئاسة البرلمان مرتين في الفترة من 1980-1989 كما تولى رئاسة الجمهورية مرتين في الفترة الممتدة من 1989-1997، ويحتفظ الشيخ رفسنجاني إلى جانب رئاسة مجلس الخبراء بمنصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، إضافة إلى عضويته في مجلس الرقابة على الدستور، وبهذا الانتخاب يرسخ الشيخ رفسنجاني وجوده السياسي باعتباره الشخصية الثانية من حيث الأهمية في إيران بعد مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي، وبحيث يشبه وضعه السياسي الآن في إيران، ذات الأجنحة السياسية المتعددة، ذلك الدور المركزي الذي يلعبه مصمم السجاد في إنتاج وإخراج السجاد الإيراني الفاخر. يلحظ الناظر إلى مصمم السجاد الإيراني وهو يرسم خطوطه الأساسية على لوحة التصميم أن هناك عدة اعتبارات تتحكم بابتكار التصميم، بداية من تناغم الألوان الموزعة على طول وعرض السجادة إلى جودة الرسوم وأصليتها وتماشيها مع التراث البصري لمنطقة إيرانية بعينها مثل أصفهان أو تبريز. وتشترك المناطق الإيرانية المختلفة في مبدأ انطلاقي عند تصميم السجاد؛ أي في ضرورة تعيين أركان التوازن البصري في السجادة عبر تثبيت النقطة التي تتوازن عندها هذه الأركان من البداية. ويمكن التحقق من ذلك في أوضح صورة عند تقليب النظر في تصاميم السجاد النائيني، حيث تصمم «الصرة» في وسط السجادة أولاً ثم يجري توزيع التصميم على الأركان وفق نظام دقيق يجعل هذه «الصرة» في مركز السجادة وعلى مسافة دقيقة من هذه الأركان.

Ad

ومن نافلة القول أنه كلما كان التوازن دقيقاً بين العناصر الجمالية والتصميمية كان التصميم رائعاً ونفيساً، وزاد احتمال أن تخرج السجادة بعد حياكتها في أحسن صورة وأبهى حلية. ولذلك يعتبر مصمم السجادة– وهي حرفة قائمة بذاتها في إيران- أهم بكثير من الحائك أو المتعهد أو حتى البائع النهائي في البازار، لأن المصمم هو الذي يبتكر السجادة على الورق قبل أن ينفذها الآخرون على النول.

يتمثل الخلاف الأساسي بين التيارات السياسية الإيرانية بشأن المفاوضات مع واشنطن حول التوقيت؛ إذ يعتقد المحافظون البراغماتيون بقيادة هاشمي رفسنجاني أن عليهم قطف ثمار ممانعة إيران وعرقلتها للمشاريع الأميركية في السنوات الماضية. وبالمقابل يعتقد المحافظون الأصوليون، ومن ضمنهم الرئيس نجاد، أن الظرف الإقليمي مهيأ راهناً لتمديد النفوذ الإيراني بشكل أوسع ومن دون الاضطرار حتى إلى الدخول في تفاهمات مع واشنطن الآن. هنا بالتحديد ستكون كلمة المرشد فيصلاً وحكماً في توجيه دفة السياسة الإيرانية، فالمرشد نفسه ليس محافظا متشددا بالدرجة التي يتخيلها البعض، والإطار الأفضل لدوره وسلطته يحتم عليه أن يظل ممثلاً لنقطة التوازن داخل الطبقة السياسية الحاكمة. كان السيد خامنئي في الأغلب ميالاً إلى توافق محافظ-إصلاحي إن جاز التعبير طيلة فترة الرئيس السابق خاتمي، وبعد اختفاء الإصلاحيين من الساحة السياسية الإيرانية أصبح نقطة التوازن داخل تيار المحافظين بين البراغماتيين ممثلين برفسنجاني والأصوليين ممثلين بأحمدي نجاد. ومع رجحان الكفة لمصلحة الرئيس نجاد وتيار الحرس بشكل كبير منذ العام 2005، نجد المرشد وفي هذه اللحظة التاريخية يعود ليضع توازنات جديدة تسمح بصعود رفسنجاني مجدداً إلى موقع الشخصية رقم اثنين في النظام، وهو ما يعطي زخماً جديداً للتيارات السياسية المناوئة لنجاد والحرس.

تزدحم قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية من التيار الإصلاحي بشخصيات أهمها حالياً، ورئيس الوزراء الإصلاحي الأسبق مير حسين موسوي، في حين تبقى قائمة الشخصيات المرشحة من التيارات المحافظة غير معلومة حتى الآن. ربما يكون رئيس البرلمان علي لاريجاني الأقرب فكرياً إلى المرشد من بين كل الشخصيات السياسية الإيرانية الحالية، كما أن خبراته التفاوضية إبان إدارته للملف النووي كانت عالية المستوى بسبب درايته الكبيرة بأساليب التفاوض ووعيه بتوازنات النظام الدولي الحالي. ولذلك تطرح شخصية علي لاريجاني نفسها كأحد أبرز المرشحين نظرياً لإدارة المفاوضات المرتقبة مع أوباما، ولكن قرار توليه منصب الرئاسة لا يحتاج إلى قرار من المرشد فقط، بل إلى قدرة ترشيحه على إحداث التوازن المطلوب داخل المعسكر المحافظ. بمعنى آخر سيتعلق قرار تحديد المرشد لمرشحه المفضل- أياً كان اسمه- بمسألة تحقيق هذا المرشح لشرط أساسي في هذا السياق؛ وهو تمثيل هذا المرشح للتوازن السياسي المطلوب بين أجنحة السياسة في إيران. تأسيساً على ذلك لن يدخل الشيخ رفسنجاني انتخابات الرئاسة القادمة كمرشح، كما فعل ثلاث مرات سابقاً، ولكنه سيلعب هذه المرة دور «مصمم السجاد» مع المرشد، أي سيساهم في ابتكار «صرة» التوازنات الداخلية التي تجعل فوز مرشح بعينه ممثلاً لنقطة التوازن في أجنحة إيران السياسية!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة