في مقال لي في هذه الزاوية في الخامس من الشهر الماضي تحت عنوان «قانون التجمعات والمحكمة الدستورية»، تناولت فيه حكم المحكمة بجلسة 1/5/2006 عندما فصلت في الدفع بعدم دستورية المادتين (4) و(16) من قانون الاجتماعات العامة، وقضت بعدم دستوريتهما، وتطرقت إلى (13) مادة أخرى من نصوص هذا القانون خارج نطاق الدعوى الدستورية، لتقضي بعدم دستوريتها، وهو ما يقتضي إلقاء الضوء على هذا القضاء.

Ad

عدم دستورية تعريف القانون للاجتماع العام:

قضى الحكم بعدم دستورية المواد (1 و2 و3 من قانون الاجتماعات العامة والتجمعات)، التي عرفت أولاها الاجتماع العام بأنه كل اجتماع يحضره أو يستطيع حضوره عشرون شخصاً على الأقل للكلام أو لمناقشة موضوع أو موضوعات عامة أو أمور أو متطلبات تتعلق بفئات معينة.

وبينت المادة (2) ما لا يعتبر اجتماعاً عاماً في تطبيق أحكام هذا القانون من اجتماعات، ولكنها تصبح اجتماعات عامة، إذا خرجت عن مناقشة الموضوعات التي تدخل في أغراضها، سواء كانت نقابات أو اتحادات أصحاب أعمال أو جمعيات نفع عام وغيرها، واعتبرت المادة (3) كذلك الاجتماعات الخاصة التي تعقد في الدواوين الخاصة، اجتماعات عامة، إذا كانت تعقد بناء على دعوة عامة لمناقشة موضوع عام محدد بالذات.

غموض تعريف الاجتماع العام:

وكانت المحكمة قد نعت على النصوص السابقة التي عرفت الاجتماع العام، وما لا يدخل فيه، غموضها من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن عباراتها جاءت عامة مرنة، بالغة العموم والسعة، غير محددة المعنى، مبهمة، لاسيما عبارة «موضوعات عامة»، وعبارة «فئات معينة» التي ليس لها مدلول محدد، فضلاً عما تحمله عبارة «أو يستطيع حضوره» من معنى الاحتمال أو الظن أو التخمين، وإمكان انصرافها إلى أي اجتماع ولو كان خاصاً.

الناحية الثانية: أن هذه النصوص تتعدد تأويلاتها، وتفتقد التحديد الجازم لضوابط تطبيقها، مفتقرة إلى عناصر الضبط والإحكام الموضوعي، منطوية على خفاء وغموض مما يلتبس معناها على أوساط الناس، ويثار الجدل في شأن حقيقة محتواها بحيث لا يأمن أحد معها مصيراً، وأن ما أصابها من تجهيل جعلها موطئاً للإخلال بحقوق كفلها الدستور.

محاذير النص الغامض:

ووضع حكم المحكمة الدستورية في مدوناته ثلاثة محاذير لتطبيق النصوص الغامضة سالفة الذكر، هي:

- أن تؤول في التطبيق إلى إطلاق العنان لسوء التقدير، وإلى إطلاق سلطة الإدارة في إسباغ وصف الاجتماع العام على أي اجتماع، وأيا كان موضوعه أو مجاله.

- أن غموض هذه النصوص وإن كان يعيبها، إلا أنه أدى إلى غموض في النصوص الجزائية بما يحول دون أن يكون المخاطبون بها على بينة من حقيقتها والوقوف على مقصودها ومجال تطبيقها حتى يكون سلوكهم متفقاً معها ونزولاً عليها، الأمر الذي يمكن أن تنال النصوص الغامضة من بريء، أو يضار منها غير آثم أو مخطئ أو مسيء، فضلاً عما يترتب على ذلك من إخلال بالحقوق الجزائية، وبقيمها، وضوابطها، وأهدافها، وقواعدها الإجرائية التي تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية الجزائية بما تؤمنه له المادة (34) من الدستور من نظام يتوخى بأسسه صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها.

مقاصد الدستور من التنظيم التشريعي:

وقد كشفت المحكمة، في أسباب حكمها عن مقاصد الدستور من التنظيم التشريعي لحق الاجتماع، فذكرت أن الدستور حين عهد إلى القانون بتنظيم حق الاجتماع قاصداً ضمانه، وتقرير الوسائل الملائمة لصونه، وأن يكون أسلوباً قوياً للتعبير عن الإرادة الشعبية من خلال الحوار العام.

ولا يتصور أن يكون الدستور قد قصد أن يتخذ من هذا التنظيم ذريعة لتجريد الحق من لوازمه، أو العصف به، وإطلاق سلطة الإدارة في إخفات الآراء بقوة القانون، أو منحها سلطة وصاية تحكمية على الرأي العام، أو تعطيل الحق في الحوار العام.

تنظيم القانون مناقض للدستور:

إلا أن ما اعتبره حكم المحكمة الدستورية -وهو تعريف الاجتماع العام- مفترضاً أولياً، لتطبيق المادة (4) من القانون التي تتطلب الحصول على ترخيص لعقد هذا الاجتماع، أو لتطبيق المادة (16) التي تقرر عقوبة جزائية على عدم الحصول على هذا الترخيص، لا يقوم باعتباره مفترضاً أولياً إلا في حالة واحدة هي أن تكون المحكمة قد قضت بدستورية المادة (4)، إذ يتعين عليها في هذه الحالة التصدي لبحث دستورية المفترض الأولي، المحدد لمفهوم الاجتماع العام.

واعتبر الحكم أن تعريف حق الاجتماع العام قد جاوز حدود التنظيم لهذا الحق إلى حد إهداره، وتعطيل جوهره وتجريده من خصائصه وتقييد آثاره، ومن ثم قضت المحكمة بعدم دستورية المواد 1 و2 و3 التي تعرف الاجتماع العام.

وإلى مقال قادم نستعرض فيه باقي النصوص التي يعتبر الحكم بعدم دستوريتها، قضاء خارج نطاق الدعوى الدستورية، ومدى التزام المشرع بهذا القضاء عند إقرار قانون التجمعات الجديد.