في الأيام العشرة الأخيرة من شهر أغسطس لفت انتباهي عدة أخبار مهمة نقلتها وكالات الأنباء عن ليبيا، وكأنها تسلط الضوء على الذكرى التاسعة والثلاثين على ثورة الفاتح من سبتمبر، التي تجعلنا نسأل عن بريقها الثوري المتبقي خلال العقود الأربعة، وهل هناك أوراق خضرة نضرة متبقية بين صفحات الكتاب الأخضر، مع ثورة كثيرا ما أثارت حولها زوابع خلقت اضطرابا في البيت الأبيض، مما أجج قوى عالمية مناهضة وثورات عدة في العالم الثالث آنذاك، كانت ليبيا واحدة منها.

ومع الانهيارات الكبرى في نهاية القرن المنصرم، ومشهد التحولات المتزايدة نحو العولمة والديمقراطيات الجديدة ورياح صناديق الانتخابات وشعارات حقوق الإنسان، كان على ثورة الفاتح أن تعيد النظر في الكثير من سياساتها وأطروحاتها الفكرية أيضا، فتتحول من التشدد إلى المرونة ومن الراديكالية الثورية إلى البراغماتية، دون أن تترك لعبة المناكفات والاهتمام بدورها الإقليمي في دعم قضايا وحركات تتعاطف معها، وبتعبير بعض الساسة والمراقبين بمنظور الثورة الخضراء ومنهجها الاستثنائي! فقد طالعتنا البراغماتية الليبية الجديدة بكل وضوح في تصريحات سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم القذافي، بأن بلاده قبلت المسؤولية عن حادث لوكيربي لسبب واحد، هو رفع الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب، وبتعبير أبسط وأوضح حينما قال: «لم تكن في أيدينا حيلة» منتقدا بقوة جشع أسر الضحايا.

Ad

هذا الظهور البارز إعلاميا لسيف الإسلام فجأة قبل الفاتح، سبقه بفترة قصيرة إعلان عن اعتزال سيف الإسلام عن السياسة، في محاولة لبلبلة الإعلام الغربي بشأن التوجهات الليبية وسياساتها الخارجية والداخلية. وفي نفس الوقت، وجدنا نجل موسى الصدر يحرك ورقته مرة أخرى، برفع دعوى قضائية ضد القذافي، حيث أصدرت السلطات اللبنانية لائحة اتهام ضد الزعيم الليبي تتعلق باختفاء الصدر منذ نحو ثلاثة عقود.

مثل تلك الخطوة الرمزية، قد تذكرنا بالتوقيت وبمفاوضات عسيرة من أجل المال وابتزاز ليبيا الراغبة في الخروج من معطف الماضي المثقل بالتبعات السياسية، وبتصريحات سيف الإسلام المهمة حول الإشارة للأهالي الذين يتاجرون بدم عائلاتهم.

كما أن هناك أكثر من «لوكيربي عائلي» ينتظره الآخرون بلهفة، لاستلام تعويضهم السخي من بلد نفطي غني في «مكرماته الثورية» على بلدان العالم الثالث ومنظماته المحتاجة! وفي الوقت الذي تحاول عائلة الصدر ضرب إسفين في العلاقات الليبية-الإيطالية عبر قضية اختفاء الإمام موسى الصدر، كانت المفاوضات السياسية بين الحكومتين تخطو نحو إنجازات العصر، فتكون حكومة بيرلسكوني أكثر من شجاعة، ولتكون خطوات القذافي أكثر من «عظيمة» عندما تنتزع اعترافا بل تعويضا بلغ خمسة مليارات على شكل دفعات ومشاريع تخطو بليبيا نحو التقدم، غير أن الأهم في الصفقة هو مبدأ الاعتراف بجريرة الحقبة الكولونيالية.

وإذا ما كانت ايطاليا واقعية وشجاعة تحاول الخروج من شبح الماضي، فإن حكومات مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تتفنن في المماطلة الدبلوماسية، رافضة حقيقة الدماء التي نزفت على يدها وبحجم الثروات المنهوبة من تلك البلدان.

أعتقد أن أكبر خطوة جريئة وبراغماتية تميزت بتبادل المصالح، هي قدرة وسرعة الحكومة الليبية وقادتها وزعيمها في التعامل مع متغيرات القرن الحادي والعشرين، لكي تكسر الحصار، وتفتح صفحة تاريخية جديدة مع الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

وتميزت الأيام العشرة الأخيرة من أغسطس، ليس بتلك الأخبار الساخنة التي تهم ليبيا والقارة والأقاليم الثلاثة، الإسلامي والعربي والأفريقي، إنما دهشة الخبر الغريب والعجيب، تلك البيعة الاستثنائية للقارة الإفريقية بقبائلها وعشائرها ومنظماتها التي جاءت حاملة ليس ريش نعامها وعاجها وإرثها الثقافي وحسب، بل وببيانها التاريخي في 28 /8/2008 عندما توج عدد من ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ إفريقيا الرئيس الليبي معمر القذافي «ملكا لهم» وبايعوه باعتباره، «ملك ملوك أفريقيا».

لسنا هنا بصدد مناقشة رقصة السامبا الإفريقية الجديدة، ولسنا هنا إزاء اكتشاف العجائب الإفريقية الخفية وسحرها وبخورها، إنما لحقيقة مهمة وهو كيف اقتنعت هذه الأعداد الكبيرة من الشخصيات بالعودة بعالم القرن الحادي والعشرين إلى عالم ومجتمع ما قبل التاريخ، اللهم إننا أصبنا بانتكاسة كبرى أو رسالة موجهة لمن يهمهم الأمر، عن أن لقب الملوك ليس حكرا على أحد، طالما اتفقت الجماعات فيما بينها على خيار «التنصيب والمبايعة». فلماذا لا يبايع الأفارقة على مستوى قاري ينسجم ويتناغم مع طوباوية الحلم الإفريقي، الذي ينوي الزعيم الليبي تحويله إلى واقع ممكن في ظروف مناخية متقلبة في القارة مع بؤس سياسي كبير يواجهها كنموذج الصومال. من دون شك إن الطواحين الإفريقية ليست اعتيادية، غير أن الأفارقة يصرون على بناء عالمهم وفردوسهم بطريقتهم ورقصاتهم السياسية العارية!!

* كاتب بحريني