تستعد إحدى دور النشر العربية في دبي لإصدار الأعمال الكاملة للروائي الأميركي وليام فوكنر، وفي إحدى حلقات برنامجها «أوبرا» دفعت مقدمة البرامج الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري الروائي فوكنر، الفائز بجائزة نوبل للأداب، إلى مقدمة قائمة أفضل الكتب مبيعا، لتثبّت من جديد أن فقرة نادي الكتاب، التي تأتي ضمن برنامجها التلفزيوني، تعد واحدة من أكبر وسائل زيادة المبيعات في مجال النشر. لم يدرك كثيرون أن فوكنر من أكثر الروائيين تأثيرا في الكتاب في القرن العشرين، لكن سلطة «الميديا» باتت أقوى من كل شيء، ويحتاج إبداع الكاتب الأميركي إلى كاريزما أوبرا ليكون في التداول، ربما يريد الجمهور أن يقرأ أوبرا من خلال فوكنر. المهم القول إن التلفزيون، بقدر ما قيل إنه أخذ من حضور الكتاب، يساهم بشكل فاعل في الترويج له، لأن وسائل الإعلام أصبحت جسما متامكلاً تروّج لبعضها بعضًا. ليس هدفنا الحديث عن هذا الموضوع تحديدا، بقدر ما نسعى الى إلقاء الضوء على تأثيرات فوكنر في الروائيين في العالم، باعتراف روائيين معاصرين كبار. ليس سهلا التخلص من تأثيراته، من إغواء أسلوبه، حرارة لغته، طرق تقديمه لشخصياته، زاوية نظره إلى الجذور، إلى التاريخ القريب وكيفية تشكل الوقائع والأحداث في أعماله. بصمات فوكنر ظاهرة في روايات الروائية الأميركية توني موريسون (حاملة جائزة نوبل للأداب 1993)، التي تخرجت في جامعة «هوارد» في واشنطن بعدما قدمت أطروحتها المعنونة «الانتحار في روايات وليام فوكنر وفرجينيا وولف» كما في روايتي «الجاز» و{الفردوس». كذلك يعترف روائي من قامة الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز (حائز جائزة نوبل 1982) بتأثير فوكنر القوي فيه، وإذ ينكر في البدء مثل هذا التأثير في حوار مطوّل أجراه معه بيلينيو أبوليو مندوزا مشيراً إلى التماثل الجغرافي، لا الأدبي بين عمله وعمل فوكنر، ينبهه مندوزا في زاوية ضيقة إلى تشابهات تتعدى النطاق الجغرافي: «هناك خط معين من النسب بين العقيد سارتوريس والعقيد أوريليانو بوينديا، بين ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي... عندما تحاول ألا تعترف بفوكنر كعنصر مؤثر مهم، ألا ترتكب بذلك جريمة قتل ضد أقرب الناس إليك؟» يجيب ماركيز: «ربما أكون كذلك، لذلك قلت أن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، لكن في كيفية تدميره. كان تأثيره يشل حركتي».يقول ماركيز في حديث آخر: «اذا كانت رواياتي جيدة فذلك لسبب واحد هو أنني حاولت أن أتجاوز فوكنر في كتابة ما هو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات، يستحيل أن تقدمها الكتابة والكلمات مثل فوكنر، ولكن لم أستطع أن أتجاوز فوكنر أبداً إلا أنني اقتربت منه». أبشالومعندما التقى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون ماركيز والمكسيكي كارلوس فوينتس في جلسة عشاء، أنصت بهدوء الى ملاحظات سياسية قاسية من قبل الكاتبين خصوصاً حول حصار كوبا. طرح سؤال على كلينتون عن أحب الأفلام الى قلبه، فكان جوابه: «في عز الظهيرة»، ثم تتابع الحديث عن الأدب والثقافة عندما تفتح كلينتون وأدهش الحضور بالكثير من التفاصيل المهمة، وألقى عبارات من رواية «دون كيخوتة» لثرفانتس، ثم بدأ الحضور بتسمية الروايات المفضلة، اختار ماركيز «كونت مونت كريستو» فيما اختار كلينتون «حكم قصير» لجورج اورويل. وعندما اختار كارلوس فوينتس «ابشالوم ابشالوم» لفوكنر نهض كلينتون وألقى مونولوغا طويلا من روايته «الصخب والعنف».في السياق نفسه، قال الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا اثناء زيارته الى سورية: «تأثير فوكنر في أعمالي كبير جداً، وضعه الكثير من كتاب العالم في مصاف كبار القرن العشرين، فهو اخترع نظاماً عالمياً للرواية، وابتكر حبكة جيدة للقصة وأدخل إلى النثر الإثارة والترقب. تشبه عوالم فوكنر عوالم أميركا اللاتينية: مجتمع ريفي فيه الكثير من العناصر الإقطاعية والإثنية، وجعل هذا التقارب الكثير منا يتأثرون به. اكتشفته حين كنت شاباً، انبهرت من طريقته البارعة في تنظيم الحبكة، الزمن المتشابك، طريقته في توليد الأحداث. لا يوجد كاتب من أميركا اللاتينية من جيلي لم يتأثر بشكل مباشر بفوكنر».في كتاب «حوارات في الرواية» الصادر عن دار الشروق في رام الله عام 2004، ينجح نجم عبد الله كاظم في جعل أربعة من الروائيين العراقيين يعترفون بتأثير فوكنر فيهم، أو يومئون إليه بهذا القدر أو ذاك.... كان المحاور محكوماً بموضوع رسالته العلمية ومتطلباتها للحصول على درجة الدكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية. يعلمنا جبرا إبراهيم جبرا أنه قرأ فوكنر وهمنغواي بعمق، وفي وقت مبكر. يقول عن فوكنر إنه «عملاق رهيب وصعب. سحرني بتجربته الأدبية، وهي تجربة من رأى الرعب، رأى المأساة، شعر بآلام البشرية مثلما أحس المسيح بها، وصورها على هذه الطريقة. ترى عنده نذالة البشر وخسة الإنسان. ترى الروعة وتجد وراء تلك الروعة الفجور والشبق والقتل، وهو في تصويره لك هذا، فنان خارق بقدرته». حين يسأله المحاور عن شخصية كونتن في «الصخب والعنف» وأثرها في شخصيات رواياته ـ أي روايات جبرا ـ يقول: «والله، هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الكلام» (ص39).يتكرر الأمر مع غائب طعمة فرمان الذي يصر على أن رواية «الصخب والعنف» لم تعجبه، لكن حين يكشف له المحاور عن نقاط الالتقاء والتشابه بين روايتي «الصخب والعنف» لفوكنر وروايته هو ـ فرمان ـ «ظلال على النافذة» يقول الأخير: «يجب أن أقول إني مندهش لاكتشافك هذه الأشياء. فهي غريبة جداً، لكنها تبدو صحيحة، وليس عندي اعتراض عليها».فرضت رواية فوكنر «الصخب والعنف» نفسها على الروائي الفلسطيني غسان كنفاني من ناحية التقنية في «حالة ما تبقى لكم»، ومن ناحية الوجدان والقيمة في «رجال تحت الشمس». يقول الروائي غالب هلسا في أحد مقالاته عن غسان كنفاني: « يضفي الموت على الموتى في منطقتنا العربية هالة لا يمكن اختراقها، لكن التفسير ناقص». ولكي يثبت أنه يرفض تصنيم غسان كنفاني، يحاول اعادة قراءة أعماله فيشير الى ان رواية «عائد الى حيفا» هي اعادة كتابة لمسرحية بريخت «دائرة الطباشير القوقازية» وأن رواية «ما تبقى لكم» هي إعادة كتابة لرواية فوكنر «الصخب والعنف»، اما رواية «من قتل ليلى الحايك؟» فهي إعادة كتابة لرواية كامو «الغريب»، في الوقت نفسه، يدافع غالب هلسا عن فكرة التأثر «التي يميل النقد الغربي اليوم إلى تسميتها سرقة» قائلا: «اذا قبلنا تهمة السرقة فإن القائمة ستطال شكسبير وغوته وبرنارد شو وبريخت نفسه واندريه جيد».غالب هلسايقول غالب هلسا في تعليقه على سؤال من شاب أردني كان يدرس معه في القاهرة، إن ذلك الشاب كان «يشكو سوء حظه وسوء حظ الأردنيين جميعا، لأنه في كل بلاد العالم تحدث أشياء غريبة ومثيرة تتيح للكتاب أن يكتبوا قصصا وروايات، أما الأردن فلا يحدث فيه شيء يستحق الكتابة، فكيف يمكن للأردني أن يكون كاتبا؟» وهو يتفق معه مع بعض التحفظات، ومع ذلك كتب غالب كثيرا عن الأردن، عن مجتمع القرية والمدينة وتفاصيله، وقدم قراءته للمكان بعناصره وتفاصيله وجمالياته. نجد في حوار معه قوله «قبل فوكنر كنت أحتار كيف أصيغ من الحياة البطيئة والرتيبة في القرية فعلا دراميا، جعلني فوكنر أرى الأحداث ليس كما وقعت، ولكن عبر تحولاتها في المجتمع».لاحقاً سيروي غالب كيف كتب «وديع والقديسة ميلادة وآخرون»، قبل أن يقرأ فوكنر, ثم كيف كتب «زنوج وبدو وفلاحون» بتأثير منه. في كتابه «أدباء علموني»، في فصل عن علاقته بروايات فوكنر، ثمة فقرة يتحدث فيها غالب عن رواية فوكنر «الحرام» وبطلها «بوبي»، فهذا البطل الذي يفقد مسدسه في لحظة، يدرك أنه فقد شيئا أساسيا في شخصيته، ويرى غالب كيف اعتقد «بوبي» أنه- بفقدان مسدسه- كمن أصيب بعاهة، لأن الأمير المحارب لا يجوز أن يفقد عدته، لذا يفضل الموت. مثل بوبي هذا، يحدثنا غالب عن فارس بدوي من قريته، أصيبت ذراعه اليسرى بورم، فقرر الطبيب قطعها، لكن الفارس البدوي قال إنه يفضل الموت! ومن هاتين الحالتين، بوبي والفارس البدوي، يخلص غالب إلى أن «سمة الكمال العضوي صورة للأمير المحارب»، وعليه يؤكد أن قصته «البشعة» كتبت بتأثير هذه الصورة لا يقتصر تأثير فوكنر في الروائيين فحسب، فحين خطب المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية باراك اوباما بخصوص القضية العرقية في الحياة الأميركية، استشهد بعبارة لفوكنر تقول «إن الماضي لم يمت ويدفن، وهو في الحقيقة ليس ماضيا»، وأن يستشهد اوباما بفوكنر فهذا إيماء الى أهمية هذا الأخير. حظيت رواياته باهتمام بالغ في أميركا وخارجها لما لها من تأثير كبير في إبراز حقيقة التناقضات في المجتمع الاميركي خصوصاً في الجنوب، حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي الحاد والتوتر.نبذةولد فوكنر قرب أوكسفورد، المسيسيبي عام 1897. كان جده الأول وهو الفريق ويليام فوكنر من الشخصيات القوية التي عرفت في جنوب البلاد. رفضه الجيش الأميركي في الحرب العالمية الأولى، لكنه عمل في ما بعد قبطانا في القوات الجوية الكندية. بعد الحرب درس في جامعة المسيسيبي لفترة من الوقت واشتغل في بعض الأعمال الصغيرة والمتناقضة ليكسب قوته. ظهرت روايته الأولى «أجر الجندي» عام 1926. تزوج عام 1929، وعمل بصفة وقاد ليلي في محطة للطاقة، وكانت هذه هي الصورة التي هيمنت على روايته «حينما أرقد محتضرا» (1930) التي كتبها ليلا بين منتصف الليل والرابعة صباحا. ثم صدرت له رواية «الملاذ» وكتب عددا من السيناريوهات لهوليوود، توفي عام 1962 .حاز جائزة نوبل للآداب عام 1949، وجائزة البوليتزر عن روايته «آل ريفيرز» التي تشبه في بنيتها نموذج الاسكتشات، وتستلتهم أقدار عائلة في مواجهة خاسرة مع مستقبلها ومع التطورات الاجتماعية التي تعصف بالعالم. من أعماله الأخرى: «ضوء في آب» (1932)، «اهبط يا موسى» (1942)، «جنازة الراهبة» (1951)، «أبشالوم – أبشالوم» ( 1936). وكانت طبعت أعماله الكاملة في سلسلة بنغوين.
توابل - ثقافات
تأثيرات وليام فوكنر... من ماركيز إلى غسان كنفاني
23-07-2008