بغداد، العراق - في الطابق العلوي، كان الباب الأزرق الذي يفضي إلى غرفة ابن نبيل الحيوي الوحيد موصداً، مخبِّئاً وراءه ذكريات حياته القصيرة. أما في الطابق السفلي، فكان صوت بائع الكتب المسن يرتجف فيما راح يتذكر عملية التفجير، التي أودت بحياة ابنه وأخيه ودمرت متجر بيع الكتب الذي تملكه عائلته في شارع المتنبي في بغداد. على الرغم من مرور سنة على تلك الحادثة، لم يدخل الحيوي منذ ذلك الحين غرفة نوم ابنه. هو أيضاً شارف على الموت في ذلك اليوم. خضع لخمس عمليات جراحية، وما زال يعاني من مشاكل في الوقوف. يتناول سبع حبوب دواء في اليوم ليتمكن من تحمُّل مختلف الآلام، ولم يتمكن الأطباء من سحب الشظايا كلها من جسمه، ما يهدِّد حياته.

Ad

لكن لم تنجح عقود من الظلم والحرب والعقوبات الدولية، التي تلتها خمس سنوات من الاحتلال والتمرد والصراع الطائفي، في هزم آل الحيوي. يقول نبيل الحيوي (60 سنة)، وهو جالس إلى مكتبه في منزله المليء بالكتب في أحد الأيام المشمسة: «إذا كنت تعيش في الخوف، فكيف لك أن تعيش؟»

في قصة العراق المليئة بالمآسي، يجسد آل الحيوي الأمل الواعد بمستقبل زاهر لهذا البلد. على الرغم من أحزانهم، يرفضون بعناد الاستسلام للفوضى السائدة اليوم، فهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتضائلة وإنما النافذة من العراقيين الذين يخافون الانشقاقات الطائفية في مجتمعهم وظهور الهوية الإسلامية، ويصممون على المحافظة على طبيعته العلمانية المتعددة.

في هذا البلد الذي يعاني من نقص الخدمات والبطالة المرتفعة، تمثل هذه العائلة بديلاً مشجعاً. أدت أعمال العنف إلى هجرة أكثر من مليوني شخص، سالبة بالتالي العراق من أصحاب المهارات المحترفين. مع ذلك، ما زال متجر الكتب، الذي أعيد بناؤه، صامداً ويشكّل مصدراً للأفكار المبتكرة والنمو الثقافي. في كل يوم في شارع المتنبي، يبيع أحد أفراد آل الحيوي الكتب، مثقفاً مجموعة جديدة من المحامين والأطباء ومبرمجي الكمبيوتر. يبقى آل الحيوي في العراق بسبب شعورهم بالحنين ووطنيّتهم ورفضهم التخلي عن التقاليد، فضلاً عن الحاجة الاقتصادية، فعندما تنسحب القوات الأميركية ذات يوم، سيعتمد العراق على عائلات مثل عائلتهم ليعيد بناء نفسه من الناحيتين المادية والمعنوية.

أسس عبد الرحمان الحيوي مكتبة النهضة في العام 1957، رجل سنّي معتدل يقدر الثقافة العربية. تُعتبر هذه المكتبة الأقدم في شارع حافظ على تراثه الأدبي خلال عهد إمبراطورية وفترة استعمار وحكم ملكي. على مر القرون، دُمرت معظم أجزاء مدينة بغداد القديمة، التي تعود إلى العام 1246، بعدما هزمتها الطبيعة والحروب، فخلعت هذه المدينة عنها أمجاد الماضي التي لم يعد لها أي وجود إلا في الذاكرة. منذ عمليات النهب التي تعرضت لها متاحف المدينة بعد العزو الأميركي في العام 2003، يُعتبر شارع المتنبي واحداً من قلة قليلة متبقية من القيّمين على حضارة هذه العاصمة وتاريخها. يحمل هذا الشارع اسم شاعر عاش في القرن العاشر، وما زال العراقيون يرددون أبياته الشعرية عن ظهر قلب.

عائلة

تفرّق أعضاء عائلة الحيوي بين بيروت في لبنان ودمشق في سورية والقاهرة في مصر. انتقل أحد الإخوة، ظافر، إلى القاهرة بعدما استهدف خاطفون ابنه، لكنَّ نبيل وأشقاءه لم يتخلوا عن منازلهم في بغداد، وصاروا يسافرون ذهاباً وإياباً ليديروا المكتبة.

علاوة على ذلك، لم يغادر محمد، الأخ الأصغر، العراق مطلقاً. في أحد الأيام الشديدة الحر من شهر سبتمبر (أيلول) عام 2006، اعتذر هذا الرجل الضخم بلطف خلال مقابلة معه عن عدم قدرته على تشغيل المكيّف بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

في منزل نبيل الحيوي في حي المنصور في العاصمة، نرى صور والده مع أولاده الصغار في مكتبة النهضة معروضة في إطار زجاجي، وتعلو أحد الرفوف صور ابنه يحيى وأخيه محمد. عندما يتذكر نبيل يوم الخامس من مارس (آذار) عام 2007، ينفجر ببكاء مر. في الثامنة والنصف صباحاً في ذلك اليوم، كان نبيل واثنان من العمال يوضّبون الكتب لشحنها إلى مدينة أربيل الشمالية، وكان يحيى (25 سنة) يعمل على بعد بابين في مكتبة مخصصة للكتب القانونية أسسها والد نبيل.

ورث يحيى، وهو مهندس كيماوي، حب أبيه للكتب. رفض منحة إلى الخارج ليتمكن من إدارة المكتبة، وكان يُفترض أن يعقد خطوبته في الأسبوع التالي. انفجرت سيارة قبالة مكتبة نبيل. يتذكر الأخير تلك المأساة قائلاً: «ظننت أنني تعرضت لإطلاق نار». في الظلمة تحت حطام المكتبة سمع محمد يصرخ: «أخرجونا! ستلتهمنا النار».

اخترقت الشظايا جسم نبيل، فما كان منه إلا أن تلا الشهادة، صلاة يرددها المسلمون قبل الموت. أحس بحرارة النار واشتم الدخان. يخبر: «قلت لنفسي: إذا أراد لي الله الحياة، فعلي أن أقف». بدأ يبعد عن جسمه قطع الإسمنت ورفوف الكتب المبعثرة.

كان محمد ممدداً تحت الكتب والركام وقطع السيارات، وبدأ صوته يضعف فيما راح يحث نبيل على طلب النجدة. في الدخان، رأى نبيل فتحة، فسار متعثراً فوق الركام، مستخدماً كتاباً في يده اليمنى ليطفئ اللهيب، وراح يدفع بنفسه نحو الأمام مستعيناً بيده اليسرى. يصف ما حدث معه قائلاً: «كنت أسبح وسط النيران».

في المستشفى، أخرج الأطباء شظايا من دماغه وظهره وعنقه، وأعطوه ستة لترات من الدم وعالجوه من الحروق، وظل فاقد الوعي ثلاثة أيام. يخبر الأقارب أنه راح ينادي ابنه وشقيقه، ثم صار ينادي بائعي كتب آخرين تربى معهم في الشارع، بعد بضعة أيام، عجز إخوة نبيل عن تأمين العناية الطبية الملائمة له في بغداد، فاضطروا إلى نقله بالطائرة إلى بيروت. مع احتراق المكتبة، ضاعت مجموعة العائلة من الكتب النادرة والطبعات الأولى والمخطوطات، وشملت كتابين قيّمين جداً عن الخط العربي.

لا يملك معظم العراقيين المال لمغادرة العراق، لكن ذلك لا ينطبق على آل الحيوي. باع الإخوة منزل العائلة في بغداد لقاء 330 ألف دولار، وعوض أن يعيشوا من هذا المبلغ أو يستثمروه خارج العراق، استخدموه ليعيدوا بناء المكتبتين ويسددوا الديون ويشتروا المزيد من الكتب.

يؤكد أخو نبيل الأصغر سناً، بديع الحيوي (52 عاماً): «إنها حياتنا، إرثنا، وتاريخنا، وهذا بلدنا، فكيف لنا ألا نكون ملزمين تجاهه؟»

تردد نبيل في البداية في مسألة إعادة بناء مكتبة يحيى، خوفاً من الذكريات التي تطارده، لكن خلال تعافيه من العملية الجراحية، وجد وصيّة يحيى التي كتبها قبل ثلاثة أشهر من عملية التفجير. في هذه الوصية، طلب منه ابنه أن يبقي المكتبة القانونية مفتوحة. يقرأ نبيل بصوته المرتعش: «كان هذا حلمي منذ طفولتي». بعد خمسة أشهر من التفجير، عاد نبيل إلى بغداد، فأقفل غرفة يحيى من دون أن يمس جهاز الكمبيوتر أو رف كتب الهندسة أو صور طفولته، وفي اليوم الذي دخل فيه المكتبة القانونية انهار.

شهداء الكتب

لم يغادر نبيل شارع المتنبي ليشرف على أعمال البناء في المكتبات فيما يحاول هو إعادة بناء نفسه. بعد شهر، سافر ليخضع لعملية جراحية أخرى، وفيما يقف العمال على منصة مرتفعة ليصلحوا الجدار الخارجي، يقول محمد طه، صديق للعائلة: «إنه رجل مؤمن». داخل مكتبة النهضة، ترى اليوم صور محمد ويحيى وعبد الرحمن، الأب المؤسس، معلقة على الحائط، وتحتها وُضعت لافتة كُتب عليها: «شهداء عائلة الحيوي».

يعمل في هذه المكتبة سبعة موظفين يشرف عليهم كل يوم فرد من آل الحيوي، بمن فيهم قوس نجاح الحيوي، ابن نجاح البالغ من العمر 36 سنة. ترك قوس مكتبة النهضة قبل نصف ساعة من عملية التفجير ليحضر كتباً من مخزن قريب وشارك في عملية إنقاذ الناجين. خلال العمل، يتحدث إلى الزبائن في المكتبة أو يتكلم عبر الهاتف مع أحد الناشرين في بيروت، وهكذا يستمر تقليد العائلة إلى الجيل الثالث. في الخارج، صارت حالة شارع المتنبي مزرية، أحاطت به الحواجز الإسمنتية ونقاط التفتيش العسكرية. كذلك مُنعت السيارات من دخول الشارع وصارت الأبنية المجاورة محطمة بعدما التهمتها النيران.

غادر الكثير من المثقفين العراق، لذلك صارت الكتب الدينية الشيعية والقرآن والمعاجم الإنكليزية الأكثر مبيعاً في مكتبة النهضة، ما يظهر الاهتمام الراهن للناس، ومنذ الانفجار، انخفضت المبيعات إلى النصف.

كلما جاء نبيل إلى المكتبة، سرّه أن يرى الزبائن، خصوصاً الطلاب، يتجولون في الشارع غير آبهين بأعمال العنف التي تهدد حياتهم.

يعبّر عن فرحته، قائلاً: «سرّني أن أكتشف أن الناس ما زالوا يقرأون».

في ظل حكم صدام حسين، كان استعمال الكمبيوتر محدوداً. ساعدت مكتبة النهضة عماد عبد الحميد (41 سنة) في تعويض ما فاته، فاشترى ترجمة عربية لكتاب عن مبادئ البرمجة الأساسية الخاصة بميكروسوفت. يخبر عبد الحميد الذي كان يبحث آنذاك عن دليل برمجة أكثر تقدماً: «ساعدني هذا الكتاب في تطوير مهاراتي، وصرت أعمل بسرعة أكبر في وظيفتي. يحتاج العراق إلى توسيع معارفه، وتفتح أمامنا هذه المكتبة آفاقاً جديدة».

قبل فترة ليست ببعيدة، سار نبيل بمحاذاة السور الأصفر العالي لجامع الأزهر الشهير في القاهرة وتوجه إلى منطقة الشارع التركي. عندما رأى أكثر من مئة مكتبة ولافتة مزينة في هذه المنطقة المزدحمة، عادت إلى ذهنه ذكريات شارع المتنبي حين كان في أوج مجده. يقول: «أشعر بالفرح لأنني أحب هذا العالم، وينتابني الحزن بسبب ما حل بنا وبشارع المتنبي، الذي كان في الماضي مركزاً حضارياً مزدهراً».

توقف في إحدى المكتبات وطلب كتباً تاريخية إسلامية وعدداً من كتب القرآن والطبخ والكمبيوتر ليرسلها إلى بغداد. بعد ذلك، توجه إلى مكتبة تُدعى «العتي» تبيع أعمالاً عراقية، بما فيها كتب عن القانون والطب والتاريخ الشعبي لبغداد. يوضح نبيل: «أشعر أنني أشتري هذه الكتب لمنزلي أو لعائلتي».

في وقت لاحق من تلك الليلة، اتصل نبيل بابن محمد، أحمد الذي يبلغ الآن الثامنة من عمره، الموجود في دمشق ويسأل باستمرار: «أين هو أبي؟»

يخبر نبيل الذي تكفّل بأحمد: «بدأت أغرس في ذهنه، بمساعدة والدته، حب الكتب والمكتبات ليتبنى تاريخ ومجد أبيه وجدّه الحيوي».

أخبر جراح في القاهرة نبيل، حديثاً، أن بإمكان الأطباء أن يزرعوا عصباً من رجله في يده اليسرى في محاولة لشفائها، لكنه قد لا يسير مجدداً. كذلك عرض عليه رجل دين نافذ في بيروت مساعدته ليحصل على لجوء إلى أوروبا، حيث ينعم بأحدث العلاجات الطبية والمكتبات الفخمة والأنيقة والشوارع الهادئة، لكن نبيل رفض.

شارع المتنبي

اعتاد أهل بغداد في نهاية الأسبوع، التي تبدأ أيام الجمعة، النزول إلى شارع المتنبي لشراء الكتب من مختلف الباعة على تعدّد طوائفهم وأديانهم، مؤكدين بالتالي صحة المثل القائل: «القاهرة تكتب، بيروت تنشر، بغداد تقرأ». أورث عبد الرحمن حب الكتب إلى أبنائه الخمسة وبناته الأربع، إذ كان يصطحبهم إلى هذا الشارع منذ نعومة أظفارهم. يتذكر الإبن البكر نجاح الحيوي (62 سنة): «تفتحت أعيننا على هذه المكتبة».

بعد الغزو الأميركي، عمت الحرية شارع المتنبي، فصار باعة الكتب يعرضون علانية كتباً دينية شيعية ومطبوعات المذهب الوهابي السني المتطرف ومجلات غربية. في الماضي، كان بائع هذه الكتب والمجلات يُلقى في السجن، لكن الفوضى العراقية المتنامية ولّدت خيبة أمل. فرضت الحكومة منع التجول أيام الجمعة، نتيجة لذلك، انخفضت المبيعات واضطر كثيرون من بائعي الكتب إلى الهرب من العراق.