تأليف: كارين أرمسترونغالناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون الذهن البشري هو الذي صنع الأسطورة! هذا ما تقوله كارين أرمسترونغ الباحثة في الأديان وأنظمة الاعتقاد في العالم. وهي عبر عملها حول تاريخ الأسطورة وظهورها تثبت لنا أنّ هذا المرجع الفذ يصحّ اعتباره الأهمّ في هذا الموضوع.تعود المؤلفة بنا الى مهد الأساطير في أوروبا قبل 350 ألف عام يوم كانت فصيلة النيندرثال تعتقد بالعالم الأخروي حسبما أثبتت التنقيبات الأثرية التي أسفرت عن احتواء قبور هذه الجماعة على أسلحة وأدوات وعظام لحيوانات مضحّى بها.عالم آخرابتكر النيندرثال، مع تبلور وعيهم بحقيقة فنائهم، حكاية مضادة تمكنهم من التكيف مع هذا الوعي، فشرعوا يهتمون بموتاهم، اعتقاداً منهم بأنّ عالمهم المرئي والمادي ليس الحقيقة الوحيدة وبأن للحياة قيمة ومعنى واستمراراً بأشكال مختلفة.وتخبرنا مدافن هذه الفئة من البشر خمسة أمور حول الأسطورة. أوّلها أن أصولها تستند الى تجربة الموت والخوف من الفناء وهو شعور ما زال يتملك عقل الإنسان على الرغم من مرور مئات الآلاف من السنوات على نشأته. ثانيها ما تشير إليه عظام الأضحية من الحيوانات مما يعني ممارسة الطقوس، فالعديد من الأساطير لا معنى لها خارج المشهد الطقسي الذي يبث فيها الحياة، ولا يمكن فهم مغزاها في أجواء اعتيادية. ثالثها أن استحضار الأسطورة يرغم على تجاوز الاختبار الشخصي لأنها تدور حول المجهول، أي حول أشياء لا نملك منذ البداية كلمات للتعبير عنها. رابعها أن هدف الأسطورة أن تدلنا على ما ينبغي فعله، فجثة الميت يتمّ تمديدها على هيئة الجنين كما لو أنه في وضعية ولادة جديدة، وأن على الميت أن يأخذ خطوة الولادة التالية بنفسه. وخامسها أن الميثولوجيا تتكلم عن عالم مواز لعالمنا وداعم بطريقة ما لوجودنا. والايمان بهذه الحقيقة اللامرئية والأكثر قوّة تسمّى أحياناً بعالم الآلهة.ابتكارتساعد الأسطورة على التعامل مع المآزق البشرية المستعصية، وإعانة الناس على تحديد موقعهم في العالم ووجهتهم فيه. فكل إنسان يريد أن يعرف من أين أتى والى أين يذهب! لذلك ابتكر قصصاً عن وجود ما بعد الموت، مع أن العديد من الأساطير لا تتضمن صوراً عن خلود الكائنات البشرية.واليوم تستعمل كلمة الأسطورة لوصف شيء غير صحيح وغير واقعي، وننبذ حدوثها في الماضي معللين بأنها أمور لا تصدق ولا يمكن البرهان على صحتها. وقد بلورنا، مع مطلع القرن الثامن عشر، رؤية علمية في فهم التاريخ أصبحنا معها مهتمين فقط بما حصل بالفعل. وهذا على خلاف ما كان يهتم به العالم ما قبل الحديث حيث كان منصباً على مغزى الحادثة ودلالتها لا على حقيقة وقوعها. فالأسطورة بمعنى ما، تروي قصة حدث حصل في زمان ما، وهي تجعله ممكن الحصول في كل الأزمنة. وبسبب صرامة رؤيتنا التعاقبية حول أحداث التاريخ فإننا لا نملك التعابير عن هكذا نوع من الحدوث الدائم، بينما تستطيع الميثولوجيا، بصياغتها الفنية، الإشارة الى ما وراء التاريخ والى ما هو غير زمني في الوجود البشري، وتساعدنا لنتعرف الى ما وراء التدافع الفوضوي للأحداث العشوائية وفي تبصر جوهر الحقيقة.تصل بنا المؤلّفة بعد اجتيازها الحقبة النيندرثالية الى الفترة البالياليثية التي تمتد من العام 8000 الى العام 2000 ق.م. وكان قد اكتمل فيها تماماً، تطور البشر البيولوجي، وبدأوا يعتمدون فكرة الزراعة بالإضافة الى صيد الطعام وتجميعه.لم يترك لنا أهل العصر البالياليثي أيّ سجل مدوّن عن أساطيرهم، إلاّ ان القصص التي استمرت في ميثولوجيا الثقافات اللاحقة تظهر لنا دور الأساطير الحاسم في طريقة فهم البشر لأنفسهم ولأزماتهم التي نجوا منها. فكلّ شيء رأوه أو اختبروه كان ظلاً لمثاله الموازي له في عالم الألوهة. وكلّ شيء فعلوه كان بالنسبة إليهم فعل تقديس يضعهم في حالة اتصال بالآلهة.لم ينظر الأوائل الى الحجر مثلاً على أنه مجرد صخرة جامدة لا قيمة لها، بل يرونه متضمناً لقوة واستمرارية وصلابة ونمط وجود مثالي تختلف تماماً عن حالة البشر الهشة. فآخَريّة الحجر الشديدة هي التي جعلته مقدّساً. وكذلك الشجرة ذات القدرة على تجسيد ذاتها بدون أي جهد، وهذه القدرة حرم منها الرجل والمرأة. وعندما رأى الإنسان القمر في تناقصه واكتماله رأى في ذلك شاهداً آخَر على قدرات التجدد المقدسة.واستمرت السماء الأزلية التي تمثل جوهر التعالي والمفارقة والآخَريّة رمزاً للقداسة لفترة طويلة بعد نهاية الفترة البالياليثية، ولكن في لحظة ما لا نعرف تاريخها بدأ الناس في أطراف العالم في شخصنة السماء، وشرعوا يخبرون قصصاً عن «الله السماء» الذي خلق السماء والأرض بيد واحدة من لا شيء. وهذا النمط من التوحيد البدائي والاعتقاد بإله واحد قادر في أجزاء مختلفة من العالم تمّ قبل البدء بعبادة آلهة عدّة.الزراعةتمت في الفترة النيوليثية، أي فترة العصر الحجري الجديد مقاربة علم الزراعة برهبة دينية فائقة حيث اعتبر عمل الزراعة مقدساً. وعلى المزارعين أثناء حرثهم للحقول وتجميع محاصيلها أن يكونوا في حالة نقاء روحي، وحين شاهد المزارعون نزول البذور الى أعماق الأرض ولاحظوا اختراقها للظلمات لتجلب بشكل مدهش اشكال حياة جديدة، أدركوا حينها أن هنالك قوة خفية تعمل، وكان المحصول بمثابة تجلّ وظهور للطاقة الإلهية. وقد بدا لهم وكأنّ الأرض تحفظ المخلوقات والنباتات والحيوانات والبشر داخل رحم حيّ.من هذا المنطلق تمّ تصميم الطقوس لتجديد تلك القوة خوفاً من أن تستنفد ذاتها. فكانت البذور الأولى ترمى بعيداً وكأنها قرابين، وتترك فاكهة المحصول الأولى بدون قطاف تجديداً لتلك الطاقات المقدسة.يدل المحصول في الميثولوجيا النيوليثية على أنه ثمرة زواج مقدس. فالتربة هي الأنثى، والبذور هي السائل المنويّ الإلهيّ، والمطر هو جُماع السماء والأرض. وهكذا أَضحت الأرض رمز البطولة الأنثوية في جميع الأساطير التي تتكلم عن التوازن والتناغم المتجدد.لقد بدا هذا الأمر واضحاً في أسطورة الإلهة أنات، أخت بعل إله الريح وزوجه، فهي لم تعد ترمز الى الصراع في عملية الزراعة فقط، بل الى صعوبة حفظ الكمال والتناغم. كما أن بعل الذي يجلب المطر للارض الجافة أصبح منخرطاً في معركة خلاقة ودائمة مع الوحوش، التي هي قوى الفوضى والتحلل.خطت البشرية خطوات جبارة عندما بدأت ببناء المدن في بلاد ما بين النهرين ومصر، ولاحقاً في الصين والهند وكريت. فازداد الوعي البشري واصبح بإمكان الناس التعبير عن تطلعاتهم بتقنيات مدنية. وكان اختراع الكتابة وقدرتهم على صياغة تعابير أدبية عن أساطيرهم قادرة على الاستمرار. وكانت المدينة بنظر شعوب بلاد ما بين النهرين مكاناً للاتصال بالآلهة وإعادة خلق للجنة المفقودة. وكما تطوّرت تقاليد هذه الشعوب الحضرية فإن الآلهة أيضاً مرّت بتطور وتحوّل مماثل.لقد قامت المؤلفة بعرض تاريخي موجز للأسطورة تبيّن لنا فيه أن العديد من رواياتها التي ابتكرت في مجتمعات تختلف كثيراً عن مجتمعاتنا الحالية، ما تزال حتى اليوم تخاطب مخاوفنا ورغباتنا الجوهرية.
توابل - حبر و ورق
تاريخ الأسطورة
06-06-2008