شئنا أم أبينا فإن التاريخ الحي يكتبه أشخاص عايشوا نبض ذلك التاريخ في أدق تفاصيله، وتلمسوا مجريات الأحداث اليومية ساعة بساعة، بل شكلوا في محطات عدة من تحولات ذلك التاريخ بكل أحداثه جزءا فاعلا منه، فلم يكن الدكتور أحمد الخطيب شخصية هامشية وقفت كمتفرج على الأحداث التي عاصرها، فهناك نمط آخر من المؤرخين، بإمكانهم الادعاء أنهم عاشوا المرحلة، ولكنهم كانوا خارج سياقات فاعليتها وفعلها المحسوس، وهذا ما يجعل الاثنين مختلفين تماما وإن عايشا معا المرحلة، من دون أن ننسى اختلاف المنهجين في الكتابة والمعالجة.

كما أن هناك نمطا آخر من المؤرخين المولعين بتوثيق التاريخ، ولكنهم لم يعيشوا بالضرورة المرحلة وأحداثها والتحموا بها وصاروا جزءا من واقعها، ولكنهم في المقابل يمارسون دورا تأويليا وتفسيريا كما هو دور الباحث أو المؤرخ، الذي جاء في مرحلة تاريخية لاحقة معتمدا على التنقيب في الوثائق والسرديات الشفهية، وفي ما تركه الآخرون خلفهم من كتابات حية عاشوها، بهدف أن يأتي في يوم ما جيل آخر يبحث بطريقة مختلفة وفق المنهج الذي ينشده، بل بإمكان هؤلاء المؤرخين قراءة التاريخ وتفسيره وفق خلفياتهم الإيديولوجية أحيانا، فليس بالضرورة أن يكون الباحث التاريخي أو المؤرخ، شخصا موضوعيا في كل مراحل تقصيه للتاريخ والأحداث، التي يبحث فيها.

Ad

ما قام به الدكتور أحمد الخطيب في كتابه عن الأحداث التاريخية التي عاصرها وعاشها خطوة في غاية الأهمية باعتبارها تجربة حياتية غنية، وقد شكلت في الواقع الراهن جزءاً من حقيقة سردية نابضة اعتمدت في سردها على الوقائع الحية، وبإمكان أي شخص لديه قدرة على الحوار أن يناقشها بهدف إغناء الوقائع والتجربة، التي سعى من أجلها الدكتور الخطيب نفسه، فقد كان همه الأساسي أن ينقل تلك التجربة الحياتية لجيل قادم، لكي لا تندثر تلك المعلومات مع مرور الأيام بغيابه عن الحياة السياسية تماما، وبإمكاننا أن نقول إن تجربة كل شخصية كويتية وطنية هي ملك وإرث تاريخي كويتي.

وتتضمن تجربة الدكتور الخطيب جانبين من التجربة، فهي تجربة ترتبط بمشروع أوسع من دائرة الوضع الداخلي الكويتي يوم ذاك، فالحركة القومية وحركة القوميين العرب كانت مشروعا قوميا عربيا واسعا على امتداد الوطن العربي، غير أن الجانب الآخر في المشروع هو تمحوره في تجربة الكويت، الوطن والحياة، فبالنسبة للخطيب كانت الكويت إحدى الحلقات القومية في تجربته الذاتية كجزء من مشروع وطني في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وبذلك لامس التجربتين وتداخلهما معا، الكويتية والعربية، بل لم تكن تجربة الخطيب مجرد تجربة سياسية وحزبية معزولة في الفراغ، بقدر ما كانت جزءاً لا يتجزأ من مشروع الحركة الوطنية الكويتية ذاتها.

ومن خلال ذلك السياق التاريخي السردي، علينا ربط الحلقتين اللتين تمركزت فيهما سيرة حياة الخطيب وتجربته الوطنية والحياتية، وباعتبار أن الدكتور الخطيب شخص وقف داخل التجربة بكل عواصفها، سواء في مرحلة ما قبل استقلال الكويت أو ما بعدها، فإنه جدير بأن يصوغ كل تلك التراكمات التاريخية من جوانبها المختلفة كجزء من تراكم الماضي والحاضر، لعل تلك الحلقتين تكتملان مع المستقبل، فالتاريخ حلقة متتالية ومستمرة، وان كانت في بعض محطات التاريخ تتقطع بعض حلقاته وتتناثر وتبدو كالمشهد الضبابي أو الرمادي.

ما فعله الدكتور الخطيب خطوة مهمة وكبيرة تتيح للجيل الشاب في المستقبل معرفة حقيقة تاريخه المعاصر، خصوصا أن من كتبه هو الخطيب الذي خرج بعد الحربين العالميتين، وعاش كل ملمات وهزائم وانتصارات تلك المرحلة.

أخيراً إن لم يكتب تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة في الكويت رجل كالخطيب تحديداً، فمن الذي بإمكانه أن يكتب التاريخ الحي لكل تلك المرحلة، التي ناهزت العقود السبعة، ابتداء من تاريخ ولادة الخطيب حتى لحظتنا الراهنة. وكما نفهم أن أعمدة البارثانينوس الصامدة في أثينا لم تكن إلا تعبيرا عن كونها علامة تاريخية، لحياة بشر مروا من هناك وتركوا خلفهم أحجارا حية من الماضي، ظلت تنبض بقصصها حتى هذه اللحظة.

من يفصلون حلقات التاريخ فصلا تعسفيا، فإنهم يقرؤون التاريخ بعين واحدة، وهم بحاجة إلى إعادة التفكير مليا، وإن ما كتبه الدكتور الخطيب، شئنا أم أبينا، حقيقة كويتية بارزة في تاريخ الكويت المعاصر وتجربتها السياسية الثرية. والتاريخ عندما يُكتب، فليس هذا يعني أننا ينبغي تقديسه بروح صنمية، إنما منح العقل، وهو أهم قيمة وجودية، حق التأمل والاستقراء والتحليل والاستنباط لتلك الحقائق المنسوجة أمامه، ولا مانع من إضافة حقائق جديدة تفتح آفاقا أوسع للجيل القادم.

وضع الدكتور الخطيب بكتاباته تلك لبنات أساسية للمرحلة التي عاشها، والتي لن تكون إلا حياة وتجربة الكويت في مفاصلها الجوهرية ومحطاتها المختلفة المتنوعة.

* كاتب بحريني